وتالله إني لأتطعم جنى محاورتك فتقف في اللهاة، وأجد لتخيل مجالستك ما يجده الغريق من النجاة، وأعتقد في مجاورتك ما يعتقده الجبان في الحياة.
أما تخطئ الأيام في بأن ترى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب
ورأيت رغبتك في الكتاب الذي لم يتحرر ولم يتهذب، وكيف التفرغ لقضاء ارب، والنشاط قد ولي وذهب، فما أجد، إلا كما قال:
نزراً كما استنكهت عائر نفحة ... من فارة المسك التي لم تفتق
وإن يعن الله على المراد، فيك والله يستفاد، وبرغبتك أخرجه إلى الوجود من العدم، وإليك يصل أدنى ظلم.
وله فصل يهني الوزير أبا بكر بن زيدون بالوزارة: أسعد الله بوزارة سيدي الدنيا والدين، وأجرى لها الطير الميامين، ووصل بها التأييد والتمكين، فالحمد لله على أمل بلغه، وجذل قد سوغه، وضمان حققه، ورجاء صدقه، وله المة في ظلام كان أعزه الله صبحه ومستبهم، غدا شرحه، وعطل نحر كان حليه، وضلال دهر صار هديه:
فقد عمر الله الوزارة باسمه ... ورد إليها أهلها بعد إقصار
الفقيه الأجل قاضي الجماعة
أبو عبد الله ابن حمدين
وأظنه هو الذي سبق ذكره في مصنف ابن بشرون، وصفه بحماية الدين ورعاية أهله، والهداية إلى سبله، وأنه مالك زمام العلوم ومحيي رسمها، ومعلي اسمها، وبه اجتثت أصول الملحدين، ورثت حبال المفسدين، في سنة تسع وتسعين، وأورد من نثره ما لذت قطوفه، وبذت قلائد الدر صنوفه، وذلك من كتاب، فضل يراجع به ابن شماخ: عمر بابك، وأخصب جنابك، وطاوعك زمانك، ونعم به إيوانك:
وسقي بلادك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
فما درج لسبيله من كنت سلالة سليله، ووارث معرسه ومقيله: ومنها: بيننا وسائل، أحكمتها الأوائل، ما هي بالأنكاث، والوشائج الرثاث، من دونها عهد جناه شهد، أرج عرف النسيم، مشرق جبين الأديم، رائق رقعة الجلبات، مقبل رداء الشباب، كالصباح المنجاب، تروق أساريره، ويلقاك قبل اللقاء تباشيره.
ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا
الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن محمد
ابن السيد البطليوسي
ذكر أنه رَكن في آخر زمانه إلى إقراء علوم النحو، وإثبات ما عفت منه يد المحو، والقناعة بشكر الحظ بعد الصحو، وأورد من كلامه، ما يجلو عن الليل بسناه دجى ظلامه، فمن ذلك قوله في طول الليل:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت، أم في الجو روض بهار
كأن الليالي السبع في الأفق علقت ... ولا فصل فيها بينها لنهار
وله رقعة يصف فيها كتاب قلائد العقيان: تأملت كتابه الذي شرع في إنشائه، فرأيت كتابا ينجد ويغور، ويبلغ حيث لا يبلغ البدور، وتبين به الذرى والمناسم، وتغتدي له غرر في أوجه ومواسم، فقد أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرات طوع أقلامك، فأنت تهدي بنجومها، وتردي برجومها، فالنثرة من نثرك، والشعري من شعرك، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرفون، وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيرا، وسبقت ودعي أخيرا، وتقدمت لا عدمت شفوفا، ولا برح مكانك بالآمال محفوقا. وله في وصف زيرطانة:
وذات عمى لها طرف بصير ... إذا رمدت فأبصر ما تكون
لها من غيرها نفس معار ... وناظرها لدى الأبصار طين
وتبطش باليمين إذا أردنا ... وليس لها إذا بطشت يمين
وله يجيب شاعرا قرطيبا:
قل للذي غاص في بحر من الفكر ... بذهنه فحوى ما شاء من درر
لله عذراء زفّت منك رائحة ... تختال من حبرها المرقوم في حبر
صداقها الصدق من ودي ومنزلها ... بصيرتي وسواد القلب والبصر
هزّت بدائعها عطفيَّ من طرب ... لحسنها هزّة المشغوف بالذكر
كأنما خامرتني من بشاشتها ... راح وسكر بلا راح ولا سكر
ما كنت أحسب أن النيرات غدت ... بصيدها شرك الأوهام والفطر
ولا توهّمت أيام الربيع ترى ... في ناضر غضّة الأنوار والزهر
أما الجزاء بشيء لست مدركه ... ولو بدرت إلى التوجيه بالبدر