وقد هاجرتُ إِنكاراً لما قد ... رأيتُ من المثالب والعيوب
ولي دهرٌ يُراقبني فأَرْمِدْ ... بلَحظٍ منك أَلحاظ الرّقيب
وشمسي تحرُق الحُسّاد كَبْتاً ... وتُعيي وصفَ ذي اللَّسَنِ الخطيب
عَلَتْ في أَوْجها وحَضيضُ حظّي ... يُجاذِبها بأَرسان المغيب
وقلت في سنة سبع وخمسمائة، وكتبتها إلى بعض الأصدقاء في سبب اقتضاه:
أَتطمعُ في عِقالك أَن يُحلاّ ... وتُدرك في ظلام الصُّدغ مَحْلا
وكنتُ أَقول لي صبرٌ مُعينٌ ... فلمّا صحّ هجرُك لي تخلّى
أَتسمع في مُحِبّك قولَ واشٍ ... وما سَمِع المُعَنّى فيك عَذْلا
لقد حلّلتَ من قتلي حراماً ... وحرَّمتَ الوصال وكان حِلاّ
وتسمح لي بخمر اللَّحظ صِرْفاً ... وتمنعني مِزاجَ الرّيق بُخلا
لقد عذَّبْتني، وأَصبتَ فيه ... لأَنّ الحبّ بالتعذيب أَحلى
لقد نصحت دعاوى العشق قوماً ... يظنّون البَلا في الحبِّ سهلا
فواحدُهم يَلَذُّ له زماناً ... ويطمع أَن يرى أَمناً وعدلا
إِذا ابتسم الوِصال يهيم عِشقاً ... وإِن عَبَس الصّدودُ سلا ومَلاّ
وشرطُ العِشق أَن تبقى أَسيراً ... وتجعلَ حُبَّهم قَيْداً وغُلاّ
فيا دهرُ ارتدِع عني وإِلاّ ... ستلقى من مُعين الدين نَصْلا
فتى إِن زُرْتَه أَلفيتَ عزماً ... يدافع من كُروب الدّهر ثِقْلا
وتلقى للخطوب حِمىً مَنيعاً ... وتُبصر جانباً للهْو سَهلا
فآلاءُ المكارم منك تَتْرى ... وآيات المحامد فيك تُتْلى
مدحتك لا لأَجلِ يسيرِ حَظٍ ... ولكن مطلبي أَوفى وأَغلى
أُؤَمِّلُ همةً لك أَمتطيها ... وأَبلغ في خفارتها المَحَلاّ
فَتنْعَشُ قوةً وتُزيلُ هَمّاً ... وتُحيي مَيِّتاً وَتَرُبُّ شَمْلا
وأنشدني لنفسه:
الصَّفْوُ من ماءِ العِنَبْ ... يا صاح أَحلى ما شُرِبْ
راحٌ تُريك بمَزْجها ... في الكأْس سِلسلة الذهب
طُبِخَتْ بنار الدّهر لا ... نارِ التَّضَرُّم واللَّهبْ
لا يَمْنَعَنَّكَ شُرْبَها ... شهرُ المحرَّم أَو رجب
وانهب زمانك إِنه ... لِشباب عمرك يَنْتَهب
وأنشدني لنفسه:
أَصوغ الحُلى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وأُتْعِبُ منّي في صياغتها النَّفْسا
ولو مُتُّ ضَرّاً ما عَقدْتُ قِلادةً ... على جيدِ مَنْ لا يستحقُّ لها لُبْسا
وأنشدني أيضاً لنفسه بمصر:
صَيْدُ السرور أَجلُّ في المعقولِ منْ صَيْد الطُّيور
كم بين حَملك للكؤو ... س وبين حملك للصُّقور
الفقيه الوجيه برهان الدين
مسعود بن شجاع الحنفي
مدرس المدرسة النورية بدمشق. قرأ على برهان الدين البلخي رحمه الله في عنفوان عمره ثم هاجر في طلب العلم إلى بخارى وسمرقند، فغاص من بحره في غمره، ثم عاد إلى الشام، وأقام بمدرسة حلب، وتنقلت به أحواله، وتحولت في البلاد رحاله، ورتبه نور الدين قاضياً بعسكره سنة، ثم توسلنا له عنده في تفويض التدريس بالمدرسة الكبيرة إليه، فحصل له ما لم يخطر بباله، وظهر بذلك حالي حاله، ورفع نفسه عن درجة الشعر، وكان له في الغربة أنجع وسيلة، وأنجح فضيلة.
وسألته مراراً أن ينشدني ما أثبته، ويسمعني ما أطريه وأنعته، فماطل بما طلب منه بعد عدة، وادعى الإملاق عن جدة، ولم يخش من الصديق أثر موجدة. ووقفت على قطعة بخطه كتبها ببخارى إلى بعض علمائها وليست من جيد نظمه، ولا من النمط اللائق بعلمه، وإنما جنى هو على أدبه، حيث لم يرد أن ينوه به. فمن جملة أبياتها، وأنا مضطر إلى إثباتها:
أَيصبر قلبي عنهمُ بعد ما ساروا ... ودمعي من الشوق المُبَرِّح مِدْرارُ