كان في زمن بني كلاب، وسمعت أنه توفي في سنة ثمانين وأربعمائة، وكان مغفّلاً، ولكنه كان ببديهته على الأدباء مفضَّلاً، ومن جملة بديهته أنَّ مُعزّ الدولة الكِلابي صاحب حلب عبر في جيشه بالمعرَّة، وابن النوت واقفٌ في حقلٍ له فخاف على زرعه فتلقّاه ووقف في طريقه وأنشده:
الشمسُ تشرقُ من خلال الموكب ... أم بدرُ تِمٍّ طالعٌ في غَيْهَبِ
هذا مُعزُّ الدولة الملكُ الذي ... عُقِدَ اللواءُ له بأعلى كوكب
في البحر أعهَدُ مَركباً من تحتنا ... وأراه بحراً فوق هذا المركب
فقال له مُعزّ الدولة: تمنَّ، فقال: أتمنّى أن لا يجول عسكرك في زرعي، فحماه له.
وجلس معز الدولة على قُوَيق، زمان المدِّ وخيَّمَ به وذكرَ ابنَ النوتِ وبديهته فنفّذ في طلبه فأُحضر على البريد فلما رآه على شاطئ النهر قال بديهاً:
رأيتُ قُوَيقاً إذ تجاوزَ حدَّه ... له زجلٌ في جريه وضجيجُ
وكان ثمال جالساً بشَفيرِه ... فشبَّهتُه بحراً لديه خليجُ
فقال له معزّ الدولة: قد زعم الشعراء الحلبيون أنَّ هذا ليس بشعرك، وكان فيهم ابن سِنان الخفاجيّ، فإن قلت بديهة أعطيتُكَ جائزتهم كلّهم، ثم نظر إلى غرابين على نشَزٍ فقال: قل فيهما: فقال:
يا غرابين أنتما سببُ البيْ ... نِ فكيف اجتمعتما في مكان
إنَّما قد وقفتما في خُلُوٍّ ... لفراق الأحباب تشْتَوِران
فاحذرا أن تُفرِّقا بين إلفَيْ ... نِ فما تدريان ما تلقيان
وقال وقد عبر على دارٍ قديمة تُنقَض وأحجارُها تُقلع والمعاول فيها تعمل:
عبرْتُ برِيعٍ من سِياث فراعني ... به زجل الأحجار تحت المعاولِ
تناولَها عَبلُ الذِّراعِ كأنَّما ... رمى الدَّهرُ فيما بينها حربَ وائل
فقلت له: شُلَّتْ يمينُكَ، خَلِّها ... لمُعتبِرٍ أو زاهدٍ أو مسائل
منازلُ قومٍ حدَّثتنا حديثَهم ... ولم أَرَ أحلى من حديث المنازل
وقال أبو الرضا ابن النوت:
نَسري فيبدو من نعال جِيادِنا ... قبَسٌ يضيءُ الليلَ وهو بهيمُ
فكأنَّ مُبيَضَّ النعال أَهِلَّةٌ ... وكأنَّ مُحمرَّ الشرار رُجومُ
وكتب إليَّ القاضي أبو اليسر الكاتب من شعر ابن النوت قصيدة في مرثية أبي العلاء المعرِّيّ منها:
سُمْرُ الرِّماحِ وبِيضُ الهندِ تَشْتَوِرُ ... في أخذ ثأرِكَ والأقدارُ تعتذرُ
والدَّهرُ فاقدُ أهل العلم قاطبةً ... فإنهم بك في ذا القبر قد قُبِروا
فهل ترى بك دار العلم عالمَةً ... أنْ قد تزعزعَ منها الحِجرُ والحَجَرُ
العلم بعدكَ غِمْدٌ فات مُنْصلُه ... والفهمُ بعدك قوسٌ ما لها وتَرُ
أبو العلاء بن أبي النَّدى
بن عمرو المعرّيّ
وقيل ابن جعفر اشتغل صغيراً بالفقه، وكان في الذكاء عديم الشبه، وهو في المدرسة الحنفية النوريّة بحلب عند العلاء الغزنوي، سمْح البديهة والروِيَّة، صحيح الرَّويّ، شاعر فقيه مجيد، وحيد فريد، غدرَ به عمره، وطوي نَشْره، وغيَّضَ فيضَه قبرُه، ونضبَ عند تموُّجِ عُبابه بحرُه، وذلك في سنة نيّفٍ وخمسين وخمسمائة، وله حدود خمس وعشرين سنة، ولو عاش لكان آية، فلم يُبقِ في علم من العلوم غاية، أنشدني له أبو غانم بن عبد الواحد بن حياة المعري من قصيدة له في الأمير السيد بهاء الدين الشريف:
مِنْ أينَ كانَ لكُنَّ يا حَدَقَ المَها ... علمٌ بنَفْثِ السِّحْرِ في عُقَدِ النُّهى
أمْ مَنْ أعارَ البانَ في مُهَجِ الورى ... فتكاً فأصبح بالقَنا مُتَشَبِّها
من كلِّ مَيّادِ القوامِ مُنَعَّمٍ ... يختالُ في سُكْرِ الشَّباب ويُزْدَهَى
واهي الجُفون فلو تكفَّلَ جَفنُهُ ... فِعلَ الصَّوارمِ لاستقلَّ وما وهى
يبدو بوجه كلَّما قابلتَهُ ... أهدى إليك من المحاسن أوجُها
كالفضَّةِ البيضاءِ إلاّ أنَّهُ يلقاكَ من ذهَب الحياءِ مموَّها