فلمّا تلاقَينا افترقْنا فلَيتنا ... بَقِينا على الحال التي لا نريدُها
المَنازي من مناز كرد
كان من وزراء المَروانيّة بديار بَكرن من العصر الأبعد، قال علم الدين الشاتاني: قرأ والدي عليه ومات سنة سبع وثمانين، وكان عظيم الشأن وأنشدني له:
وقانا لفحةَ الرَّمضاءِ وادٍ ... وَقاهُ مُضاعَفُ النَّبْتِ العَميمِ
نزلنا دوحَه فحَنا علينا ... حُنُوَّ المرْضِعاتِ على الفَطيمِ
وأَرْشَفَنا على ظمإٍ زُلالاً ... أَلَذَّ من المُدامَة للنَّديم
يصدُّ الشمسَ أنّى عارَضَتْنا ... فيحجُبُها ويأْذَنُ للنّسيم
يَروعُ حَصاهُ حالِيَةَ العَذارى ... فتلمُسُ جانِبَ العِقد النَّظيمِ
الرئيس أبو الحسن عيسى بن الفضل النّصرانيّ
المعروف بابن أبي سالم، كان شيخاً بهيّاً كبيراً، ولما قصدت والدي بالموصل في سنة اثنتين وأربعين كان يزورنا ويعرض علينا مكاتبات العم الصَّدر الشَّهيد عزيز الدين إليه، ولم أُثبت له شيئاً، فسألت الآن الشاتاني عنه فقال: هذا من بيت كبير، أبوه كان وزير بني مروان بميّافارقين، وأمُّه يقال لها الستّ الرحيمة، قال لها نظام الملك: أنت الستّ الرَّحيمة، قالت: بل الأمَة المرحومة. وكان مشهوراً بين أرباب الدّولة، موفور الحُرمَة، وله أشعارٌ غَثَّةٌ وثمينة، واهية ومتينة، وقد وازَنَ الأمير تميمَ بن المُعِزّ المِصري في قوله:
أَسربُ مَهاً عنَّ أمْ سِربُ جِنَّهْ ... حكيتُنَّهُنَّ ولستُنَّ هُنَّهْ
بقصيدة أوّلها:
لقد عذُبَ الماءُ من ريقهِنَّهْ ... وطاب الهواءُ بأنفاسِهِنَّهْ
وله إلى بهاء الدولة صاحبِ شاتان وقد سافر إلى حصن زياد:
تكون بميّافارقين ووَحشتي ... تزيد لِنأْيِي عنكمُ وبِعادي
فكيف احتيالي والمهامِهُ بيننا ... تحولُ وأطوادٌ لحِصن زِيادِ
الفقيه الإمام شرف الدين أبو سعد
عبد الله بن محمد بن أبي عصرون
ومن نعوته حجّة الإسلام، مفتي العراق والشام، وهو شيخ العلم العلاّمة، وبفتياه توطَّدت للشرع الدَّعامة، وله الفخار والفخامة، وليس في عصرنا مَن أتقن مذهب الشافعيّ رضي الله عنه مثلُه، وقد أشرق في الآفاق فضله، وصنَّف في المذهب تصانيف مفيدة، قواعدها في العلم مَهيدة، مَولدُه بالمَوصل، المُحرَّم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وتولّى قاضي القضاة بدمشق وجميع الممالك الملكية النّاصريّة بالشام سنة اثنتين وسبعين بعد وفاة كمال الدين الشهرزوري، وله ثمانون سنة. وكم مهَّد للشريعة سنّة حسنة، لقيتُه بالمَوصل سنة اثنتين وأربعين وهو مدرِّس المدرسة الأتابكيّة، وبالشام سنة اثنتين وستين بحلب وهو مدرِّس المدرسة النُّوريّة، وكان نور الدين رحمه الله وجئت في صحبته إلى حلب في سنة ثلاث وستين في زمان الشتاء الكالح، والبرد الفادح، والقَرّ النّافح، كتبت إلى الشيخ ابن أبي عصرون أبياتاً منها:
أيا شرف الدّين إنَّ الشتاء ... بكافاته كفّ آفاته
فكتب إليَّ في الجواب والده متّع ببقائه عبد الله: لا زال عماد الدين لكلِّ صالحةٍ عِمادا، وتأمَّلْتُ رقعته الكريمة، بل الدُّرَّة اليتيمة، فملأَتِ العينَ قُرَّةً، والقلبَ مسرَّةً، وسكَّنَتْ نافِرَ شوقي إلى لقائه، واستيحاشي لتأَخّره، وفهمت ما نظمه، وأعربتُ ما أَعجَمَه:
إذا جا الشتاءُ وأمطارُهُ ... عن الخير حابسةٌ مانعَهْ
وكافاته الستّ أَعطيتَها ... وحاشاكَ من كافه الرَّابِعَهْ
وكفّ المهابة والإحتشام ... لِكفيَّ عن بِرِّه مانِعَهْ
وهِمَّة كلِّ كريم النِّجارِ ... بمَيسورِ أحبابه قانِعَهْ
ونفسيَ في بسط عذري لديه ... جعلتُ الفداءَ لهُ، طامِعَهْ
وشوقي إلى قربه زائدٌ ... ومعذرتي إن جفا واسِعَهْ
ولرأْيِه في تأَمُّلِها الرِّفعة إن شاء الله.