وتعوَّذْ بالذكر من سُنَّةِ الغد ... ر ولا غروَ أن تكون ذَكُورا
أَفْهَمَتْنِي على قُحولِ ربُاهَا ... فكأني قرأتُ منه سطورا
دَمُ عيني بالسَّفْح حَلَّ لدارٍ ... لا يرى أَهلُها دماً محظورا
ومنها:
هيَ دارُ العيش العزيز بما ضَمَّتْ ... قضيباً لَدْناً وظَبْياً غَريرا
ما تخيَّلْتُ أنها جَنَّةُ الخُلْد ... إلى أن رأيت فيها الحُورَا
يا لُواةَ الديوان هل في قضاءِ ... الحُسْن أن يَمْطُلَ الغنيُّ الفقيرا
احفظوا في الإسار قلباً تَمَنَّى ... شَغَفاً أن يموت فيكمْ أسيرا
وقتيلاً لكمْ ولا يشتكيكمْ ... هل رأيتمْ قبلي قتيلاً شكورا
ومنها:
نَصَلَ الحوْلُ بعدكم وأَراني ... بَعْدُ من سَكْرَةِ النَّوَى مَخْمُورا
ارْجِعُوا لي أيامَ رَامَةَ إِنْ كا ... نَ لما كان وانقضى أَنْ يَحُورَا
وشباباً ما كنت من قبل نَشْرِ ... الشيب أخْشَى غُرَابَهُ أَنْ يَطيرا
إنْ تكنْ أَعْيُنُ المَهَا أَنْكَرَتْني ... فلعمري لقد أَصَبْنَ نكيرا
زَاوَرَتْ خُلَّتَينِ مِنِّيَ إِقتا ... راً يُقَذِّي عيونَها وقَتيرا
كنتُ ما قد عَرَفْنَ ثم انتَحَتْنِي ... غِيَرٌ لمْ أُطِقْ لها تغييرا
وخطوبٌ تُحيل صبغتَها الأَبشا ... رَ فضلاً عن أَن تُحِيلَ الشُّعورا
وافتقادي من الكرام رجالاً ... كان عيبي في ظلهمْ مستوراً
فارقوني فقلَّلُوني وكم كا ... ثَرْتُ دهري بهمْ فكنت كثيرا
ومنها في التخلص:
ولقد أَبقتِ الليالي أبا الفضل ... فأبقتْ في المجد فضلاً كبيرا
لاحَ فينا فأقمرت ليلةُ البد ... ر وأَعطْى فكان يوماً مَطِيرا
الفقيه ابن الكيزاني المصري الواعظ الشافعي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت بن فرح الأنصاري المعروف ب
[ابن الكيزاني]
فقيه واعظ مذكر حسن العبارة، مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة، ولنظمه عذوبة وحلاوة. مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول. وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، ومعرفة بالقديم مكون الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده، وزل في مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العباد قديمة، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة. أعاذنا الله من ضلة الحلم، وزلة العلم، وعلة الفهم. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديبٍ أريب ونبيلٍ نبيه.
وله ديوان شعر يتهافت الناس على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودع فيه من المعنى الدقيق، واللفظ الرشيق، والوزن الموافق، والوعظ اللائق، والتذكير الرائع الرائق، والقافية القافية آثار الحكم، والكلمة الكاشفة أسرار الكرم.
توفي بمصر سنة ستين وخمسمائة وهو شيخ ذو قبول، وكلام معسول، وشعر خال من التصنع مغسول، ودفن عند قبر إمامنا الشافعي رضي الله عنه. والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه، ويدعون قدم الأفعال، وهم أشباه الكرامية بخراسان.
أنشدني الفقيه أبو الفتح نصر الفزاري الإسكندري ببغداد في ذي الحجة سنة ستين، قال: أنشدني ابن الكيزاني وقد دخلت إليه زائراً بمصر في شوال سنة خمس وخمسين لنفسه:
إِذا سمِعْتَ كثير المدح عن رجلٍ ... فانظر بأيِّ لسانٍ ظلَّ ممدوحَا
فإن رَأَى ذاك أَهلُ الفضل فارْضَ لهم ... ما قيل فيه وخُذْ بالقول تصحيحا
أَوْ لا فما مَدْحُ أَهلِ الجهل رافِعُهُ ... وربما كان ذاك المدح مجروحَا
واستعرت من الملك الناصر صلاح الدين وقد لقيه قبل أن ملك مصر قطعة بها من شعره في الغزليات وغيرها في الزهديات، وأثبت منها هذه المقطوعات فمنها قوله:
اصْرِفوا عنّي طَبِيبي ... وَدَعُوني وَحَبيبي
عَلِّلوا قلبي بذكرا ... هُ فقد زادَ لهيبي
طابَ هَتْكي في هواهُ ... بَيْنَ وَاشٍ ورقيبِ