كريمٌ فما الغيثُ الهَتون إِذا همى ... يُباريه باسْتهلاله وانْهماله
وكما الرِّزق إِلاّ من طَلاقةِ وَجهه ... وما الموتُ إِلاّ لمحةٌ من جَلاله
وما البحر إِلاّ قطرةٌ من مَعينه ... ولا البدر إِلاّ دُرّةٌ من كماله
وما العلمُ إِلاّ لفظةٌ من مقاله ... ولا الفضلُ إِلا خَلّةٌ من خِلاله
وما الأَرض إِلاّ حيث مَوْطِئ نَعْلِه ... ولا النّاس إِلاّ من ذَوِيه وآله
فلا زال مَعْمورَ الجَناب مُسَلَّماً ... ولا زالت الأَقدارُ طَوْعَ مقاله
رب الفصاحة ومنشيها، ومعيد السماحة ومبديها، أخي المكارم وخدينها، رأس المفاخر وعرينها مسلماً من أوقات الزمن، معصوماً من إحنات المحن، ذا صبوة يؤذن باجتلاب السرور معينها، ويذعن لانتصاب الحبور معينها، ويحدو إلى اغتنام العمر حاديها، ويشدو بغرام الدهر شاديها. إذ هو دهر تدل أفعاله على غدره، وتنبئ أقواله عن مكره، يسترد ما وهب، ويعيد ما نهب ويفرق ما ألب، ويحمق من أدب.
نَكِدٌ يُشتِّتُ ما التأَمْ ... وَيَلُمُّ شَعْباً مُنْثَلِمْ
ويُكَدِّر الصافي ويمْزُجه لِوارده بِدَم
ويُغِضُّ إِن هَنّا وليْس يفي وإِن أَعطى الذِّمم
ذو النَّقْص مَرزوقٌ لديْه وذو الفضائل قد حُرِمْ
فالحازمُ اليقِظُ الذي ... بعُهوده ما يَعْتَصِم
ويفوز بالعيش اللذيذ وللمسرَّة يَغتنم
من قبل أَن يُمْسي ويُصبحَ في حساب ذوي الرِّمَم
وينالَ قِسْم تُراثِه ... عَصَباتُه وذوو الرَّحِم
فاللبيب من انتهز فرصة، قبل أن تصير غصة، وبذل في نيل آرائه جهده وحرصه، وأنفق فاضل شبابه قبل أن يعاين فيه نقصه، قبل أن يصير ما كنزه لنفسه، وما أحرزه عن نابه وضرسه، بعد حلوله في رمسه، مأكلة لزوج عرسه. أيقظنا الله وإياك عن سنة الغفلة، ووفقنا لاستخدام المهلة، وأعاننا على دنيا لا يدوم نعيمها، ولا يبرأ سقيمها، ولا تندمل كلومها، ولا يسلم سليمها، غرارة تضل مبتغيها، مكارة تخيب روادها ومنتجعيها:
دارُ سوءٍ فما تقيم على حا ... لٍ ولا تستقيم في الأَفعالِ
طبعها اللُّؤْم والخِلابة والحِقد ونقضُ العُهود والأَحوال
وانتزاعُ الغِنى بنازلة الفقر وحُلْوِ النَّعما بمُرّ الزوال
فالأَريب اللبيب يستنفد الدنيا وأَعراضَها ببذل النوال
فليس للمقيم بها مقام، ولا للمنتقم من صرفها انتقام، إلا بمداومة الصهباء، في الإِصباح والإمساء، لصرف الهم عن قلبه بصرف الراح، وجعل قدحه الكبير من الأٌداح، ومباكرة دنه وخماره، ومراوحة عوده ومزماره.
ولقد استنفدت كل المجهود، في بلوغ المقصود، فرأيت تحصيل الجار، قبل الدار، والرفيق، قبل الطريق، إذ لا سبيل إلى جمع المسرة إلا بالمصافي من الإخوان، ولا إلى دفع المضرة إلا بالكافي من الأعوان، وفتح الله لي بسادة أمراء، وقادة كبراء، يجزون عن الإساءة بالإحسان، ويقابلون الذنب بالغفران، إن قطعوا وصلوا، وإن خزن عنهم بذلوا، وإن فوضلوا فضلوا، وإن نوضلوا نضلوا، وإن فوخروا فخروا، وإن جني عليهم اعتذروا.
عِصابةٌ من سَراة الناس مُنْجِبَةٌ ... صِيدٌ، غطارفة، ليسوا بأَغمارِ
غُرٌّ ميامينُ، وصّالون قاطِعَهم ... شُمْس العَداوةِ، أَخّاذون بالثار
هُم، إِذا المَحْلُ وافى، سُحْبُ أَمطارِ ... وإِن رَحا الحرب دارتْ، أُسدُ أَخْدار
المُنْعمون فلا مَنٌّ يُنَكِّدُه ... والمانعون حِمى الأَعراض والجار
والطاعنون وساقُ الحرب قائمةٌ ... والمُطعمون على عُسْرٍ وإِيسار
يُغْضُون عَمَّن أَتى ذنباً بِحِلْمِهمُ ... ولا يُجازون عن عُرْفٍ بإِنكار
مَناظرٌ حَسُنتْ والفعلُ يَشْفَعُها ... منهم فنالوا بهذا طيب أخبار
تراضعوا دَرَّة الإِنصاف بينهمُ ... فما يجول لهم جَوْرٌ بأَفكار
تَجَلْببوا بِجَلابيب المكارم والآداب لكنهم عارون مِنْ عار
من تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقيتُ سيِّدَهم ... مثلُ النجوم التي يسري بها الساري