للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

آراؤهم سديدة، وأنباؤهم رشيدة، وأقوالهم مفيدة، وأفعالهم حميدة، وطرائقهم مستقيمة، وخلائقهم كريمة، يجودون إن ضنت الغيوم، ويكتمون السر إذا أذاعه النموم، وينيرون إذا جن الظلام، ويجيرون إذا جارت الأيام، ويغدقون إذا غبر العام. فَصِرْتُ من عَقدهم، وانتظمتُ في عِقدهم، فرأَيت كلاَّ منهم قد حاول من هذا الأَمر ما حاولت، وتناول في تحصيله أَكثر مما تناولت، وأجمعت آراؤهم على ما رأيت، ووافقت رواياتهم ما رويت.

فلما اتفقت الشهوات، وزالت الشبهات، شرعنا في استدامة المدام، وأتبعنا الليالي فيها والأيام، لا نفيق من صبوح وغبوق، ولا نسأم من خلاعة وفسوق، ما بين نغم أوتار ودلف راووق، مستوطنين منزلاً للخلوة، وارتشاف القهوة. فاقتضى ما بيننا من اقتراح الألفة والتألف، واطراح الكلفة والتكلف، أن قسمنا الأيام والليالي بيننا أقساماً، فكل يعد في نوبته للاجتماع طعاماً ومداماً، ويعرف يومه وليلته، ويستعمل قدرته، ويستنفد طاقته في إظهار الأفانين العجيبة. ويجمع بين آلات الطرب والطيبة، وساعاتنا بالسرور تمضي، وأوقاتنا بالحبور تنقضي.

ولم نزل على ذلك المنهاج، متمازجين بأعدل المزاج، حتى انتهت النوبة إلى سيد كريم من الجمع، ألف حلو العطاء وما عرف مر المنع، فنادى مناديه في نادينا، يجمع حاضرنا وبادينا: إلي، قدموا الحضور إلى المنزل الرحب، وثقوا بالأهل والرحب. فأجبنا المنادي، وحللنا النادي، وولجنا داراً قد دار على المكارم سورها، وأجد بالجد العامر معمورها.

فلما اطمأن بنا المكان، وساعد الزمان والإمكان، جاء غلام حسن القوام، عذب الكلام، كأنه بدر التمام، ومصباح الظلام، إذا رنا فالربيب ينظر من عينيه، والقضيب يهتز من عطفيه.

ما في الوجود له شَكْلٌ يُماثِلُهُ ... من البرية لا أُنْثى ولا ذَكَرُ

تحيَّر الحُسْنُ في تكوين صُورتِه ... وأَظلم النيّران: الشمسُ والقمرُ

إِذا تبدّى فبدرٌ طالعٌ حَسَنٌ ... وإِن تثنَّى فغصنٌ ناعمٌ نَضِر

قد كمل حسنه وخلقه، وحسن زيه وخلقه، فقال بلسان عذب، وكلام كاللؤلؤ الرطب: عرفتم أيها السادة، ما جرت به العادة، وأكل الطعام، قبل شرب المدام، فاعزموا إذا دعيتم، ولا تأبوا إذا استدعيتم. فنهضنا ملبين نداه، مجيبين دعا، فسار أمامنا، واتخذناه إمامنا، إلى طعام تكل عن وصفه الألسن، ويشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاعتمدنا مذهب الإيثار، وأكلنا حسب الاختيار، ورفعنا فاضل الخوان إلى الحاشية والغلمان، ثم استحضرنا الطسوت والأباريق، والغسول المتخذ من ماء الورد والمسك السحيق، فغسلنا الأيدي والأفواه، واستعملنا الطيب والأفواه. فلم نلبث حتى أقبل غلام أحسن من الأول وصفاً، وأكمل رشاقة وظرفاً.

مُهَفْهَفٌ جَلَّ حُسناً أَن تُكَيِّفَه ... في الخَلْقِ دِقَّةُ أَفهامٍ وأَفكارِ

حاز الجمال فكلُّ الخَلْق يَمْنَحُه ... مَحَبَّةً بين إِعلان وإِسرار

في وجهه آيةٌ للحُسن باهرةٌ ... جَلَّتْ فَذَلَّ لديْها كلُّ جَبّار

تمازَجَ المِسْكُ والكَافور واتفقا ... بِوَجْنَتَيْه ولاذ الماءُ بالنّار

قد تحلى بالجمال، وتردى بالكمال، سكران من خمرتي صباً ودلال، يتمايل كأنه غصن عبثت بعطفيه ريحاً صباً وشمال، وفي يمينه ثلاثية ذات شعاع ونور، وفي يمينه كأس من بلور.

حَمْراء في كأْسها السَّرَّاءُ تَطَّرِدُ ... فما تَحِلّ بها الضَّرّاءُ والكَمَدُ

كأَنَّها جذوةٌ قد ضمها بَرَدُ ... إِذا صببتَ عليها الماءَ تتقدُ

يسعى بها شادِنٌ أَلمى أَغَنُّ كحيل الطَّرْفِ نمّ به التَّوْريد والغَيَد

فقال بلسان فصيح، وكلام عذب صريح، ولفظ مليح، ومعنى رجيح: السلام عليكم يا مسرة نفوس الأوطان، وقرة عيون الإخوان. فقلنا: وعليك السلام يا بدعة الزمان، ومجمع الحسن والإحسان، ويا مفحم قس وسحبان، فقال: اعلموا أحلكم الله دار الأمن والأمان، وأمتع ببقائكم الإخوة والندمان، أني رسول إليكم من جامع اللذات والأفراح، ومحلها في الكاسات والأقداح، بنت الكروم المنقذة من الهموم، المفرحة على الخصوص والعموم.

<<  <  ج: ص:  >  >>