للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

راح لا يلوذ النصب بساحتها، ولا يكدر التعب صفو راحتها، ولا يحل الحزن بدارها، ولا يطفئ الماء ضوء نارها. بكر ما أيمت، ومرة حلت لما حرمت، كلما عتقت زادت جدة، وإذا كسرت بالمزج ازداد حدة، قد قصر عن وصفها الواصفون، وحار في إدراك نعتها العارفون. وأنا أقول بلسانها، والذي في يدي عنوانها، وها هي الآن قد برزت من خدرها، وتجلت بحبابها لا بدرها، وقد أنالتكم رضاع درها، وأعفتكم من وزن جذرها، وكفي تدعوكم إلى نفسها، وتمنحكم ثمار غرسها، وتبيحكم حمى مسها وتنبيكم أن هذه ليلة عرسها، فهلموا، وألموا.

وتقدم فسرنا خلفه، واجتنبنا خلفه، وهو ينحرف إلينا كالظبي الغرير، ويتعطف لدينا كالغصن النضير، ويشرق علينا كالبدر المنير. فأدخلنا مجلساً صغر عندنا ما رأيناه، وأنسانا كل ما رويناه.

مجلِسٌ حُفّ بالسَّنا والسَّناءِ ... بايَعَتْنا فيه يدُ السرّاءِ

في زمانٍ صفا وراق ورقّ الجوُّ لما وافى نسيمُ الهواء

وكسا رَبْعَه الربيعُ وحلاّ ... هُ بلون الصفراء والحمراء

ضاع عَرْفُ الصَّهْباء والوقت والنَّدْ ... مان فيه وطيبُ نَشْر الكِباء

فبلغنا كلَّ المُنى والأماني ... وغَنينا عن الغِنى بالغِناء

وشُغِلْنا عن القَنا بالقَناني ... والتَهَيْنا عن الظُّبى بالظِباء

وانْعَكفنا على ارتشاف دم العنقود ضَرْباً عن قصد سفك الدِّماء

بين إِخوان نَجْدةٍ وأُولى بأْ ... سٍ وفضلٍ ويقظةٍ وحِباء

وسخاءٍ وحكمةٍ ووقارٍ ... ووفاءٍ وفطنةٍ وحياء

وجمالٍ وحُسْن خَلْقٍ ولطفٍ ... وكمالٍ ونَخْوةٍ وذَكاء

قد أطلعت بدر الكمال سماؤه، وأبرزت نجوم الإقبال أفناؤه، وحف بالنور والنور، والورد والمنثور، ونضد بالزهر والريحان، بين الحور والولدان، بكؤوس مدام كالأرجوان، بين اتفاق أوتار، واختلاف ألحان. وهم يسكرون بكاستهم قبل كاساتهم، وبسوالفهم لا بسلافاتهم، فناول كل واحد رطلاً، ولم يترك أحداً منا عطلاً، وقال:

باكِرْ كُؤوسك يا نديمي ... وذَر الوُقوفَ على الرُّسومِ

واشرب هنيئاً واسقِني ... كأْساً تُريح من الهُموم

بِكراً مُعَتَّقَةً وِلا ... دَتُها من الدَّهر القديمِ

من قبل مَهْبِط آدمٍ ... والكونُ في دار النعيم

حمراء يُشرِق نورها ... في ظُلْمة الليل البهيم

وتَخال نَظْمَ حَبابها ... في كأْسها زُهرَ النُّجومِ

من كفّ أَحورَ يَنْثني ... كالغصن من مَرِّ النسيم

رشأٌ مَلاحته تُحَيِّرُ كلَّ ذي لُبٍّ سليم

أَحوى أَحمٌ عليه جلْباب النَّضارة والنّعيم

في مجلسٍ مُسْتَنْزَهٍ ... ما بين كاعبةٍ ورِيم

ونحن ما بين قيام وقعود، واشتمام رائحة ند وعود، واستماع ناي وعود، إلى أن أخذت الراح منا بعض حقها، وصرنا في قبضتها وتحت رقها، وتقضى أكثر النهار، ولاح علينا دلائل الفرار، وهدأت منا النزوة، وبان فينا الفتور والنبوة، ومالت الرؤوس طيباً وطرباً، وارتاحت النفوس عجباً وعجباً، فحينئذ قر لنا القرار، واطمأنت بنا الدار، فتذاكرنا الأخبار، وتناشدنا الأشعار، فقام فينا سيد القوم خطيباً، وأوسعنا لوماً وتثريباً، وعنفنا بالوعظ، وأغلظ في اللفظ، وقال: يا غافلين عن الزمن الأنيق، والعيش الرقيق، أما تستمتعون ما سمحت به يد الزمان البخيل، وتستلذون المقام قبل الرحيل. ثم تناول رطلاً كبيراً، وأطرق يسيراً، ونظر إليه شزراً، وأطال روية وفكراً، فتطاولت إليه الأعناق، ورمقت نحوه الأحداق، فقال:

أُنطر إِلى الماء فيه النّار تلْتهبُ ... كأَنه فِضّةٌ قد شابها ذَهبُ

واستغنم العيش واشربها مُعَتَّقةً ... وانهب زمانك واللَّذاتُ تُنْتَهَب

من كفّ أَحورَ في أَجفانه مَرَض ... به قلوبُ ذوي الألباب تُسْتَلَب

أَحمّ أَحوى رَخيم الدلّ مُنْفرد ... في حسنه، وإِليه الحسن يَنتسب

<<  <  ج: ص:  >  >>