كأنّهما في الطيب كانا تنافرا ... فسارا إلى فَصْلِ القضاء وسافرا
فلما تلاقى السابقان تناظرا ... فقال ولي الحق مهلا تضافرا
فكلكما عذب المجاجة طيب
ألم تعلما أن اللجاج هو المقت ... وأن الذي لا يقبل النصح منبتّ
وما منكما إلا له عندنا وقت ... فلما استبان الحق واتجه السمت
تقشّع عن نور المودة غيهب
وإن لنا بالعامري لمظهرا ... ومستشرفا يلهي العيون ومنظرا
وروضا على شطي خضارة أخضرا ... وجوسق ملك قد عَلاَ وتجبرا
له تِرَةٌ عند الكواكب تطلب
تَخَيَّرَهُ في عنفوان الموارد ... وأثبته في ملتقى كل وارد
وأبرزه للأريحي المجاهد ... وكل فتى عن حرمة الدين ذائد
حفيظته في صدره تتلهب
تقدم عن قصر الخلافة فرسخا ... وأصْحَر بالأرض الفضاء ليصرخا
فخالتْه أرض الشرك فيها منوخا ... كذلك من جاس الخلال ودوخا
فروعته في القلب تسري وتذهب
أولائك قوم قد مضوا وتصدعوا ... قضوا ما قضوا من أمرهم ثم ودّعوا
فهل لهم ركن يحس ويسمع ... تأمّل فهذا ظاهر الأرض بلقع
ألا انهم في بطنها حيث غيّبوا
ألست ترى أن المقام على شفا ... وأن بياض الصبح ليس بذي خفا
وكم رسم دار للأحبة قد عفا ... وكان حديثا للوفود معرّفا
فأصبح وحش المنتدى يتجنّب
ولله في الدارات ذات المصانع ... أخلاء صدق كالنجوم الطوالع
أشيع منهم كل أبيض ناصع ... وأرجع حتى لست يوما براجع
فياليتني في فسحة أتأهّب
أقرطبة لم يثنني عنك سلوان ... ولا مثل إخواني بمغناك إخوان
وإني إذا لم أسق ماءك ضمآن ... ولكن عداني عنك خطب له شان
وموطىء آثار تعد وتكتب
لك الحق والفضل الذي ليس يدفع ... وأنت لشمس الدين والعلم مطلع
ولولاك كان العلم يطوى ويرفع ... وكل التقى والهدي والخير أجمع
إليك تناهى والحسود معذب
ألم تك خصت باختيار الخلائف ... ودانت لهم فيها ملوك الطوائف
وعض ثقاف الملك كل مخالف ... بكل حسام مرهف الحد راعف
به تحقن الآجال طورا وتسكب
إلى ملكها انقاد الملوك وسلّموا ... وكعبتها زار الوفود ويمموا
ومنها استفادوا شرعهم وتعلموا ... وعاذوا بها من دهرهم وتحرموا
فنكب عنهم صرفه المتصحب
علوت فما في الحسن فوقك مرتقى ... هواؤك مختار وتربك منتقى
وجِسْرُكِ للدنيا وللدين ملتقى ... وبيتك مرفوع القواعد بالتقى
إلى فضله الأكباد تنضى وتضرب
تولّى خيار التابعين بناءه ... ومدوا طويلا صيته وثناءه
وخطّوا بأطراف العوالي فِنَاءَهُ ... فلا خلع الرحمان منه بهاءه
ولا زال مسعى كَائِدِيِهِ يخيب
وتابع فيه كل أروع أصيد ... طويل المعالي والمكارم باليد
وشادوا وجادوا سيدا بعد سيد ... فبادوا جميعا عن صنيع مخلد
يقوم عليهم بالثناء ويخطب
مصابيحه مثل النجوم الشوابك ... تخرق أثواب الليالي الحوالك
وتحفظه من كل لاه وسالك ... أجادل تنقض انقضاض النيازك
فأنشازهم بالطبطبية تنهب
أجِدَّكَ لم تشهد به ليلة القدر ... وقد جاش مد الناس منه إلى بحر
وقد أسرجت فيه جبال من الزهر ... فلو إن ذاك النور يقبس من فجر
لأوشك نور الفجر يفنى وينضُب
كأن الثريا ذات أطواد نرجس ... ذوائبها تهفو بأدنى تنفس
وطيب دخان الند في كل معطس ... وأنفاسه في كل جسم وملبس
وأذياله فوق الكواكب تسحب
إلى أن تبدت راية الفجر تزحف ... وقد قضي الفرض الذي لا يسوف
تولوا وأزهار المصابيح تقطف ... وأبصارها صونا تغض وتطرف