ثم أتينا إلى ساقية فرأينا فرافير فرفعنا الحطام عليهن فارتفع، ودار وما وسع، يحفظ رؤوسنا، ويطيب نفوسنا، إلى أن غاب عن الأبصار، وتوارى عن النظار، فأشفقنا من أفوله، وشككنا في نزوله، فطيرنا له الفرافير وكانت عشرا، فنزل كأن له عندهن وترا، فصاد واحداً فأخذناه وخلصناه، ثم عدنا وأرسلناه، فأعاد من دورانه أحسن مما أبدى، ثم انقلب إلى الطيور ولآخر أردى. ولم يزل كذلك يصيد ونرفعه، ويحسن وما نشبعه، حتى أتى على الجميع، وأبدع في الصنيع، فعند ذلك وفيناه طعمه، ووفرنا قسمه.
ثم عدنا إلى المضارب، لقضاء المآرب، فوجدنا من تخلف من الأصحاب، قد أعد يابس الأحطاب، فأضرمت النيران، وقدم الخوان، وحضر عليه الإخوان، وشرعنا في تناول ما أعده الطاهي وهياه، وحضرنا ما قنصناه فاشتويناه، ثم شرعنا الخيام، وأقعدنا القيام، وأحضرت الراح وآلاتها، ودارت بالأقداح سقاتها، فاجتلينا شموس العقار، من أيدي الأقمار، وحركت الأوتار، وجاوبتها الأطيار، وعلت الأصوات، وحلت الأوقات، والقمر طالع، والماء للنسيم دارع، والغدير لمقابلة النجوم له كأنه سماء، ونحن إلى ما في أيدي السقاة ظماء، نستجلي محياها، ونستحلي حمياها.
نستغنم العمرَ والأَقدارُ غافلةٌ ... عنّا، وغَرْبُ شَبا الأَيام مكفوفُ
ونقطع الدَّهر ف أَمنٍ وفي دَعةٍ ... وَصْلاً، وطَرْفُ صُروف الدهر مَطْروف
وأَطيبُ العيش ما جاد الزمان به ... مُسَلَّما، ليس تعروه الأَراجيفُ
فما الحياة ولو طالت بدائمةٍ ... فلا يَغُرَّكَ تعليل وتسويف
وما برحنا كذلك إلى أن غرب القمر، ودنا السحر، وكره السهر، فأخذنا من النوم نصيبا، وضاجع كل محب حبيبا، فلام طوى الليل سرادقه، ونشر الصبح بيارقه، انتبهنا من الرقاد، وانتهبنا آلات الاصطياد، وفزنا في اليوم على الأمس بالازدياد.
ولم نزل عشرة أيام، في صيد وشرب مدام، حتى مللنا ما كنا فيه، وعزمنا على ما ينافيه، فملنا عن الحركة إلى السكون، وانتقلنا من الصحاري إلى الوكون، وقلنا: إلى متى سفك الدما، والفتك بالدمى، وحتمام نفرق بين الألاف، ونفوق سهم البين إلى الأحلاف، فهل وثقنا بالأقدار، ونسينا تقلب الليل والنهار، وهل أمنا أن نصاب بما أصبنا به، وننتاب بظفر الزمان ونابه، فرجعنا نطلب منازل، خوالي منالمكاره حوالي بالمكارم أواهل، فلما دنونا من العمران، ووجدنا رائحة الأوطان، قال بعض الإخوان: ما ترون في النزول بالبستان؟ فامتثلنا أمره، والتثمنا صدره، والتزلمنا حكمه، وارتسمنا رسمه، ودخلنا إلى بستان، كأخلاق الجان، معمور بالروح والريحان، تتشاجر الورق في اوراق أشجارها، وتنفث في عقد سحرها نفحات أسحارها، وتتجاوب البلابل ببلابل أشجانها، وتتناوب العنادب بفنون ألحانها في أفنانها.
فمن فائزٍ بالوَصْل لم يذق النَّوى ... يُناغي جِهاراً إلفَه وينوحُ
وراقٍ ذُرى غُصنٍ رطيب فدأَبه ... ينادي إِلى محبوبه ويصيح
وذاتِ قرينٍ لم تفارقه لحظةً ... فمِنْ شَعفٍ تغدو به وتروح
ومِنْ فاقدٍ إِلفاً يَهيم صبابةً ... إِليه ويُبدي حُزنَه وينوح
وانتهينا منه إلى قصر قصرت عن نعته الهمم، وصغرت عنده إرم، شاهق البناء، رائق الفناء، فائق الأرجاء، فاستدللنا بالظاهر على الباطن، ويحسن المسكون على إحسان الساكن، فيه بركة قد حركت راؤها، وفي وسطها فوارة قد ارتفع إلى السماء ماؤها، كأنها رمح قد طعن به في نحر السحاب، فجاد عليها بواكف الرباب، قد أديرت بأكواب وأباريق، مملوءة من سلسبيل ورحيق، فاستوينا في الإيوان، وتناولنا ما حضر من الألوان، وارتحنا إلى الراح، واستهدينا كيمياء الأفراح.
فأقبل شادن رخيم الدلال، عديم المثال، منتشي الطرف، متثني العطف، فصيح اللهجة، مليح البهجة، خفيف الخصر نحيفه، ثقيل الردف كثيفه، ساجي اللحظ، شاجي اللفظ، متأود القد، متورد الخد، قد أطلع البدر من أزراره، وأودع الدعص في إزاره.
رَشَأٌ يتيه بحُسنِه وجَمالِهِ ... فاق البدور بِتِمِّه وكمالِهِ
أَزْرى بكل مُوَحَّدٍ في حُسْنه ... حتى ببهجة شمسه وهلاله