ثم طار عن يسار صاحب الباز الأصفر فحل دراج وعلا، ولحق بأعنان السماء فأرسله عليه فتواطى واعتنق الكلا، يجر فاضل سباقيه، ولا يفتر من النظر إليه، فعاين الدراج مدرجا، ورأى نبجا، وعزم على النزول به، طمعاً في حمايته وتأشبه، وشآه الباز محلقا، وتلقفه متعلقا، فقال صاحبه قد حصل، فقرط من كفه ونزل، وولج النبج، وأقسم أن لا يخرج، وانغمس الباز معه في العوسج، انغماس القرم المحوج، فدنا منه صاحبه وقرب، وأقام يده له فركب، فصرنا بأجمعنا نطلبه، وألقينا الكلاب لعلها تجذبه، وهن ينشقنه، كأنهن يشتقنه، ينبحن ويشخرن، ويبصبصن بأذنابهن ويكشرن، وقد قاسين محنا، كأن له عندهن إحنا، فعجبنا من كيده، وعجنا عن صيده، والكلاب تشم رائحته ولا ترى له جرما، كأنما أتى إليها جرما، تجد الفتك به غنما، والترك له غرما، فوقفنا حوالي النبجة، ونظرنا من خلال العوسجة، فإذا هو فيها كامن، وبها واثق آمن، فوكزناه بمنسأة فطار، وعجل الفرار. فأرسل الباز في كتفه، فأذاقه مر حتفه، ونزل عليه، وذبح في رجليه، وأطعمه ما اشتهى، وخلص منه الباقي لما اكتفى، وتمثل بقول من نطق بالحكمة، ما كل بيضاء شحمة.
وانحرفنا فأقلع من ورائنا ديك حجل، كمذعور وجل، يجد في الطيران، مرتفعاً إلى كيوان. فنام الغطريف له ففتح يده عليه وأرسله، فخرج مبرياً إليه وواصله فحصله، فأعجبنا ما رأيناه، وعوذناه بالله وفديناه، فمضى صاحبه وذبح في كفه، وأشبعه إلى أنفه، وقال: ليس الخبر كالعيان، ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان.
وسرنا فرأينا من بعد أشباحا، فقربنا إليها ارتياحا، فألفينا كراكي، كأنهن بخاتي، واقفات على غدير الماء، متعلقات على المرعى، فرمقننا بأحداقهن، وتطاولن بأعناقهن، ولما رآهن صاحب الباز الأسود ستره، وما أظهره. فقام الباز على دابرتيه إليهن، وحملق عينيه عليهن، فقال: أرى بازي تقاضاهن، لما ضاهاهن فما ترون في الإرسال، وعلى نتكل في جميع الأحوال. فقلنا: بازك قادر، وأنت به خابر، فأرسله إن قوي العزم، وأسرع فهو الحزم، فأنزل يده له فسقط عنها كالورقة، يفتح جناحيه ويقلقهما كالبوتقة، وأطلق فرسه، خلفه ليحرسه. فأقلعن، وعن الأرض ارتفعن، فحصل بينهن، وقصد حينهن، وسلب أكبرهن وأصلبهن، فصار صاحبه إليه، وجعل رجله على رجليه، وفتح فكيه، وذبح في كفيه وكتف جناحيه، وناوله رأسه وأشبعه عليه، وهو يقول: زاحم بعود أو دع، إذا قالت حذام فصدقوها، إن الجبان حتفه من فوقه.
وانتهينا إلى مظنة طير الماء فوجدنا نقيعاً كبيرا، وطيراً كثيرا، فتقدم الذي على يده الشهاب وصفر لها، وخلى سبيلها، فدارت أضيق حلقة، وأخذت أوفى طبقة، ولحقت بالحبك، ولاحقت قبة الفلك، فأقلعنا إليها الديازج مع الملاعق، فانقلبت أسرع من نزول الصواعق، فزجت ديزجا وعلقت ملعقا، فجاء وشق لها جنبه، وأطعمها قلبه، وقال: الخير لا يؤخر، والمحسن بالإحسان إليه أجدر، فقلنا له: رأيك صائب، ومخالفك خائب.
ومشينا قليلا، فألفينا فيضاً عريضاً طويلا، وعاينا طيراً مهولا، فأرسل الصاعقة عن يده فأسرعت في الدوران، وارتفعت في الطيران، كأن لها في السماء أربا، أو كأن بينها وبين الملائكة نسبا. فطيرنا لها الذكور والإناث، واعتمدنا في إطارتها الاستحثاث، فانقلبت أسرع من الكوكب المنقض، والشؤبوب المرفض، فصادت أنثى، فعاد فحلها إليها حثا، ليخلصها منها، ويذود دونها عنها، وجاء إليها ضرباً بالجناحين، فلم يعلم أنه جان جنى الحين، فعلق الشاهين برجله رأسه، وجرعه من الحتف كأسه، فأسرع صاحبه النزول، وذبحهما وهو يقول: على مثل ليلى يقتل المرء نفسه، ما كل غانية هند، فتى ولا كمالك، لكل مقام مقال، ولكل مقال رجال، ولكل رجال فعال، ولكل فعال مآل، وما بعد الهدى إلا الضلال.
وسقنا فرأينا نهرا، ووجدنا عنده إوزا، فأطلق المنجنيق، فارتفعت إلى العيوق، فأقلعنا لها الإوز، وقلنا: من عز بز. فانقلبت كالبرق الخاطف، بدوي الرعد القاصف، وهبوب الريح العاصف، وقصدت سمتهن، وصارت من إشفاق الغرق تحتهن، وحملت عزة، واحتملت إوزة. فقال صاحبها: كل الصيد في جوف الفرا، والحق ما فيه مرا، وفي اللجاج حرمان، والزيادة ما لها نقصان. وفداها وعوذها، وأشبعها وأخذها.