فاعجب لها من فُرْقة باعدتْ ... بين أَليَفْين وكلٌّ حبيب
وأنشدني لنفسه من قديم شعره:
قالوا نَهَتْهُ الأربعون عن الصِّبا ... وأَخو المَشيب يجور ثُمَّتَ يَهْتدي
كم حار في لَيْلِ الشَّبابش فَدَلَّهُ ... صُبْحُ المَشيب على الطريق الَأْقَصد
وإذا عَدَدْت سِنِيَّ ثم نَقَصْتها ... زَمَنَ الهُموم فَتِلْك ساعُة مَوْلِدي
تعجب من مقاصد هذه الكلم، وتعرض لموراد هذه الحكم، واقض العجب كل العجب، من غزارة هذا الأدب، ولولا أن المداد أفضل ما ترقم بن صحائف الكتب، لحررت هذه الأبيات بماء الذهب، فهذا أبلغ من قول أبي فراس بن حمدان:
ما العمرُ ما طالتْ به الدّهورُ ... العمرُ ما تَمَّ به السرورُ
أَيّامُ عِزّي ونَفاذ أَمري ... هي التي أَحْسُبها من عمري
فالفضل للمُتقدِّم في ابتكار المعنى وللمتأَخر في المبالغة، حيث ذكره في بيتٍ واحد ولم يجعل له نصيباً من العمر إلاّ ساعةَ مَوْلِده. فجميع الحياة على الحقيقة نصب، وألم وتعب.
وأنشدني أيضاً لنفسه من قديم نظمه:
تَجَرَّمَ حتى قد مَلِلْتُ عِتابَهُ ... وأَعرضتُ عنه لا أُريدُ اقترابَهُ
إذا سقَطتْ من مَفْرَقِ المرء شَعْرَةٌ ... تأَفَّف منها أَن تَمَسَّ ثِيابَه
وأنشدني من قديم قوله في السلوان أيضاً:
لم يَبْقَ لي في هَواكُمُ أَرَبُ ... سَلَوْتُكُمْ والقُلوبُ تَنْقَلبُ
أَوْضَحْتُمُ ليَ سُبْل السُّلُوِّ وقد ... كانت ليَ الطُّرْق عنه تَنْشَعِبُ
إلامَ دَمعي من هَجْركمُ سَرِبٌ ... قانٍ، وقلبي من غَدْرِكم يَجِبُ
إِن كان هذا لِأَنْ تعبَّدني ال ... حُبُّ فقد أَعْتَقَتْنِيَ الرِّيبَ
أَحْبَبْتُكُمْ فوق ما توهَّمَه ال ... نّاس وخُنْتُمْ أَضعافَ ما حَسبوا
تأمل هذه المعاني والأبيات، بعين التأني والثبات، تعرف أن قائلها من ذوي الحمية، والنفوس الأبية، والهمم العلية، وكل من يملكه الهوى ويسترقه، قلما يطلقه السلو ويعتقه، إلا أن يكون كبيرا غلب عقله هواه، واستهجن في الشهوات المذمومة نيل مناه. وقوله: " فقد أعتقتني الريب " في غاية الجودة ونهاية الكمال، أعذب من الزلال، وأطيب من السحر الحلال، وألعب بقلوب المتيمين من نسيم الشمال.
وقوله أيضاً من قديم شعره:
إذا اختفت في الهوى عني إساءتُهُ ... أَبدى تَجَنِّيه ذنبي قَبْل أَجْنيه
كذاك إنسانُ عيني لا يزال يرى ... عَيْبي، ولستُ أَرى العيبَ الذي فيه
وقوله أيضاً:
يا دهرُ ما لك لا يَصُ ... دُّك عن إساءَتيَ العِتابُ
أَمْرَضتَ من أَهوى ويأْ ... بى أَن أُمَرِّضَهُ الحِجابُ
لو كنتَ تُنْصِف كانت ال ... أَمراض لي وله الثّوابُ
قد قيل في مرض الحبيب كل معنًى بكر، مخترع لديه ومبتدع فكر، إلا أن هذه الأبيات لطيفة المغزى طريفة المعنى، مقصدها سهيل، وموردها سهل، لو سمعتها في البادية عقيل لم يثبت لها عقل، ولا شك أن حبيبه عند استنشاق هوائها، فاز ببرء مهجته وشفائها.
هذه الأبيات كنت نقلتها من تاريخ السمعاني فلما لقيت مؤيد الدولة قرأتها عليه وكنت أثبتها على هذا الوجه. أبصر مني العينان، وإن لم يحط السمعان، من أنباء تاريخ السمعاني، الحاوي للمعاني، أبياتاً رواها، وناظمها بماء الحكمة رواها، وقد بددتها في كتابي هذا غيرةً من الملتقط، وحفظا لها من العيي المشتط المشترط.
وأما أشعاره التي أنشدنيها بدمشق سنة إحدى وسبعين من نظمه على الكبر قوله حين قلت له: هل لك معنًى مبتكرٌ في الشيب:
لو كان صَدَّ مُعاتِباً ومُغاضِبا ... أَرضيتُه وتركتُ خَدّي شائبا
لكن رأى تلك النَّضارة قد ذَوَتْ ... لمّا غدا ماء الشّبيبِة ناضِبا
ورأى النُّهى بعد الغَواية صاحبي ... فثنى العِنان يُريغ غيري صاحبا
وأَبيه، ما ظَلَم المَشيبُ وإِنّه ... أَمَلي، فقلت عساه عني راغبا