أَنا كالدُّجى لما تناهى عُمُره ... نَشَرتْ له أَيدي الصّباح ذَوائبا
وهذا معنًى مبتكرٌ في الشيب لم يسبق إليه.
وقوله:
أَنْستنَي الأيّام أَيامَ الصِّبا ... وذَهَلْت عن طِيب الزّمان الذّاهِب
وتنكَّرتْ حالي فكلُّ مآربي ... فيما مضى ما هُنّ لي بمآرب
وقوله:
نهارُ الشَّيْبِ يكشِف كُلَّ رَيْبٍ ... تَكَفَّلَ سَتْرَه لَيْلُ الشَّبابِ
يَنِمُّ على المَعايب والمَساوي ... كما نَمّ النُّصُول على الخِضاب
فهل لي بعد أَن ضَحَّى بِفَوْدي ... نهارُ الشَّيْب، عُذْرٌ في التّصابي
وقوله:
أَفْدي بُدوراً تمالَوْا ... على المَلال ولجوّا
قد كنت أَحسب أَني ... من هجرهمْ لست أَنجو
هذا الذي كنتُ أَخشى ... فأَين ما كنت أَرجو
وقوله:
قُلْ للذي خَضَب المَشيبَ جَهالةً ... دَعْ عنك ذا فلكلّ صِبْغٍ ماحِ
أَوَ ما ترى صِبْغَ اللّيالي كلّما ... جَدَّدْنَه يَمْحُوه ضَوْءُ صباح
وقوله في محبوس:
حَبَسوك والطَّيْرُ النواطق إِنّما ... حُبِسَتْ لِمِيزتها على الأنَدادِ
وتهيبَّوك وأَنت مُودَعُ سِجْنهمْ ... وكذا السُّيوف تُهابُ في الأَغماد
ما الحبسُ دارُ مَهانةٍ لِذوي العُلى ... لكنه كالْغِيلِ لِلْآساد
وأنشدني قوله في الشمعة:
أُنظر إلى حُسنِ صبرٍ الشمعُ يُظْهِرُ للرّ ... ائين نُوراً وفيه النار تَسْتَعِرُ
كذا الكريم تراه ضاحكاً جَذِلاً ... وقلبُه بدخيل الهَمّ مُنْفَطِر
وقوله:
لَأَرْمِيَنَّ بنفسي كُلَّ مَهْلَكَةٍ ... مَخُوَفةٍ يَتَحامها ذَوو الباس
حتى أُصادِفَ حَتْفي فهو أَجملُ بي ... من الخُمول وأَستغني عن الناس
وقوله:
العجز لا يَنْقُصُ رِزْقاً ولا ... يَزيدُه حَوْلٌ ولا فَحْصُ
كلٌّ له رِزْقٌ سيأْتيه لا ... زيادةٌ فيه ولا نَقْص
قد ضمِن اللهُ لنا رزقَنا ... جاءت به الآثار والنَّصّ
فما لنا نطلبُ من غيره ... لولا قنوطُ النَّفس والحِرْص
وقوله في نفاق الدهر:
نافقتُ دَهْري فوجهي ضاحِكٌ جَذِلٌ ... طَلْقٌ وقلبي كئيبٌ مُكْمَدٌ باكِ
وراحَةُ القلب في الشَّكْوى ولَذَتُها ... لو أَمكنت لا تُساوي ذلِةَّ الشاكي
قد تمكنت كلمة لو أمكنت فما أحسنها موقعا، وأجملها موضعا، ثم قارن اللذة بالذلة وهما متجانسان.
وقوله:
إِذا حال حالِكُ صِبْغِ الشَّباب ... سقى عَهْدَه الغيثُ من حائلِ
فماذا الغُرور بِزُورِ الخِضا ... ب لولا التَّعَلُّلُ بالباطل
وقوله من قديم شعره:
أَأَن غَضَّ دَهْرِي من جِماحِيَ أَو ثَنى ... عِنانَي أَوْ زَلَّتْ بأَخْمَصِيَ النَّعْلُ
تظاهر قَوْمٌ بالشَّماتِ جَهالةً ... وكم إِحْنَةٍ في الصدر أَبرزها الجهلُ
وهل أَنا إلاّ السَّيْفُ فَلَّلَ حَدَّه ... قِراعُ الأعادي ثم أَرْهَفَهُ الصَّقْل
وقوله:
لا تُوصِ عند المَوْت إِل ... لا بالوديعة والدّيونِ
وَدَعِ التَّشاغُل بالحُطا ... م كفاكِ شُغْلُك بالمَنون
فَوَصِيَّةُ الأَموات بالأ ... حياء من شُعبٍ الجُنون
وما أحسن بيت المعري:
يُوَصّي الفتى عند المَماتِ كأَنه ... يَمُرُّ فيَقْضي حاجةً ويعودُ
ورأيته وقد أهدي له دهن البلسان، فسألت عنه، فقال: كتبت إلى المهذب الحكيم ابن النقاش هذه الأبيات على لسان:
رُكْبَتي تَخْدم المهذَّبَ في العِلْم ... وفي كلّ حِكمةٍ وبيانِ
وهي تشكو إِليه تأْثير طولِ الْعُم ... ر في ضَعْفِها وَمَرّ الزمان
فَبِها فاقةٌ إلى ما يُقَوِّيها ... على مَشْيِها من البَلَسان