للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الملقّب بشمس الدين، من المعاصرين، يعرف في الشام بابن المنجِّم، وتوفي بدمشق بعد العَود إليها سنة ستين وخمسمائة، ذو البديهة المستجيبة، والقريحة العجيبة، والمنطق واللسن، والكلام الحسَن، والقالة والحالة، والتحقيق والتدقيق، والمنظر الصبيح، والمِقوَل الفصيح، اجتمعت له الصباحة والفصاحة، والبهجة واللهجة، مواعظه مبكية مضحكة، وكلماته بالوعيد منجية مهلكة، إذا وعظ كانت عباراته أرقّ من عبرات الباكين، وإذا انشد كانت غرره آنَقَ من درر الناظمين، وثغور الضاحكين. حضرت ببغداد مجالسه وشهدت محاسنه فألفيته جوهريّ الوقت، جهوريّ الصوت، وهو كما قال الحريريّ: بزواجر وعظه يقرع الأسماع، وبجواهر لفظه يطبع الأسْجاع، وبكلامه يأسو الكُلوم، ويجلو الهموم، وبنكته يَنكُتُ العقولَ ويَبهَتُ الحُلوم، فما رأيت في مجلسه إلاّ قلوباً ترقّ، ودموعاً تترقرق، وجيوباً تُشَقَّق، ونفوساً تكاد من وجدها تزهَق، وأنفاساً تتصاعد، وحُرَقاً تتزايد، وأيدياً إلى قابل التوب تُرفَعْ، وشعوراً لقِطْع الحَوب تُقطع. قال يوماً وقد قصَّ شعر شاب، من التوّاب. شابٌّ جفا، قصَّ شعره بمقصّ الوفا، وألبسه قميصاً كان عليه وقال: من وافقَ وفَّق، فقصَّ بقصصه وأشعاره شُعوراً، فكأنَّه بنغماته داوُدُ يتلو زَبورا، وخرج أعيان أهل من ثيابهم إليه، وخلعوها عليه، فقلتُ يجب أن نُسَمِّيَه المَعرّي المُعرّي، وأنا في حدود خمس عشرة سنة، وكان ذلك يوم عاشوراء بالمدرسة النظامية سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ولم أزل إلى آخر سنة إحدى وخمسين ألقاه في محافل الأماثل، ومجالس الأفاضل، ولم يزل شحّاذاً أخّاذاً، فصّالاً قوّالاً، نتّاشاً حوّاشا، فاتقاً راتقا، ماهراً حاذقا، لا يخلو يوماً شرَكُه من صيد، لو رآه الحريريُّ لم يذكر أبا زيد، له في كلِّ حادثٍ حديث، وفي كلِّ خطبٍ خطبة، وفي كلِّ نائبٍ نوبة، وفي كلِّ ملِمٍّ إلمام، وفي كلِّ جمعة جمع، وفي كل سبت وقت، وفي كل نادٍ نداء، وفي كل ناشئٍ إنشاء، وفي كل فصلٍ فصل، وفي كلِّ سهم نصْل، وفي كل مدخَلٍ دُخول، وإلى كل مَحفِلٍ وصول، وإلى كل موردٍ ورود، وفي كل مشهَدٍ شهود، وفي كل مأتمٍ نِياحة، وفي كلِّ يَمٍّ سِباحة.

حضرت عند شيخ الشيوخ إسماعيل الصوفي ببغداد وهو قائم يورد فصلاً، ويملأ الجمع فضلاً، ومما أنشأه على البديهة وأنشده فيه بيتين علِقا بالحفظ، لرقة المعنى واللفظ، وهما:

يا أخلاّئي وحقِّكُمُ ... ما بقي من بعدِكم فَرَحُ

أيُّ صَدرٍ في الزمان لنا ... بعد صدر الدين ينشرحُ

وسمعته يُنشد في سيدنا وأستاذنا شرف الدين يوسف الدمشقي المفتي ببغداذ:

مَن ذا يُباهي أو يُضا ... هي في الخليفة أو يُلاسنْ

لفقيهها الشرفِ الذي ... جمع المكارمَ والمحاسنْ

وكان له على الواعظ علي الغزنويّ، الملقب ببرهان الدين، رسمُ تعهُّدٍ، فسمعته يُنشده يوماً:

يا مَن يطوفُ بكعبة ال ... إحسانِ منه المُستميحُ

إن طاف طوفانٌ بنا ... من عُسرةٍ فنَداكَ نوح

أو ظَلَّ عازَرُ قصدِنا ... ميتاً فجَدواكَ المسيح

وأثْرَتْ ببغداد حاله، ونمى مالُه، وحلَت عيشته، وحَلِيَت معيشته، وكان مولعاً بالاستكثار، من نكاح البكار، وهو ذو حظٍّ من النسوان، وقَبولٍ عند الحِسان، أنشدني له في بعضهنّ:

جارةٌ قد أجارها الْ ... حُسْنُ من كلِّ جانب

فهي بين النساء كال ... بدر بين الكواكب

وأقام ببغداد حتى تبغدذ، وتمتع فيها وتلذّذ، وكان نظيفاً عفيفا، نظيفاً ظريفا، غلب على نظمه الإكثار، واستوى في نظمه الصُّفْر والنُّضار، قوّة إيراده وحسن إنشاده يُطَرِّقان بين يدي الضعيف من شعره، ويُنَفِّقان الزّيف من نظمه ونثره، وربما سمحت بديهته بما تضِنُّ به رَوِيَّة الفضلاء، من نوادر تبْهَر خواطر الشعراء، وتُفحِم شقاشق البلغاء. ومما أنشدنيه لنفسه ببغداذ سنة خمسين وخمسمائة بيتين في الطبقة العليا، في ذم الدنيا وهما:

أُفُِّ للدُّنيا وأُفُّ ... كلُّ مَنْ فيها يلفُّ

مثلُ خيّاطٍ حريص ... كلّما شلَّ يكُفُّ

وآخران في وصف فرسٍ أدهم:

وأدهَمَ يستعيرُ الليلُ منه ... وتطلعُ بين عينيه الثَّريّا

<<  <  ج: ص:  >  >>