ثم طالعت مجموع عمارة الشاعر اليمني في ذكر شعراء اليمن فوجدته قد أثنى على أبي بكر العيدي من عدن وقال: ومنهم من جعلت ذكره فارس الأعقاب، وجمال ما مضى وما يأتي من الأحقاب، وزير الدولة الزريعية وصاحب ديوان الإنشاء بها ووصفه بصدق اللهجة، وحسن البهجة، والدين الحصين، والعقل الرصين، والؤدد العريض، والكرم المستفيض، والتواضع الذي لا يضع من رتبته العالية، ولا يرخص من قيمته الغالية، وأما البلاغة فهو إمامها، وبيده زمامها، ولخاطره هداية النجم الساري، وسلاسة العذب الجاري، وأما عبارته فلا يشوبها لبس، ولا يعوقها حبس، فسيح في الإطالة مجاله، موف علي الروية ارتجاله، يكاد نظمه أن يبتسم ثغره، ونثره أن ينتظم دره. وقال إن له بلاغة تشهد عذوبة مطبوعها، بكرم ينبوعها، وألفاظاً تدل معانيها، على فضل معانيها.
وأما مولده فمن أهل أبين وهو أبين عدن، قال ولما ترعرع عني بنفسه، وكان ينزل إلى عدن وهي من وطنه على ليلة فيجتمع بالعلماء الواصلين من الآفاق إلى موسم عدنن ولازم الطلب، حتى تفقه وتأدب، ونظم ونثر، وكتب وحسب، ولم يزل في عدن وجمر فضله مستور بالرماد، وغمر معينه مغمور بالثماد، إلى أن مات محمد بن غزي كاتب الشيخ بلال بن جرير صاحب عدن، فتنبه بلال عليه، وأرشده رائد السعادة إليه، فجعله كاتبه، بل صاحبه.
وذكر أنه حكي له أنه كان محمد بن غزى إذا أراد أن يكتب عن بلال كتاباً أو يرد جواباً لم يستقل بنفسه دون الحضور بين يديه حتى يملي عليه مقاصد الكتاب ثم لا يختمه حتى يلحق بلال بين سطوره بخطه ما وقع الإخلال به في اللفظ والمعنى، فلما كتب له الشيخ الأديب اعتقد بلال أن الأديب مثل ابن غزى في جمود طبعه، وخور نبعه، وثمد معينه، وعدم معينه ونبوة كلامه، وكبوة أقلامه، وقصر رشائه، وفقره من فقر إنشائه، وشتان بين عزة فارس القلم، وذلة راجل الجلم، فألقى بلال إلى الأديب كتباً وردت عليه، وقال قف عليها وتصفحها حتى نخلو من مجلس السلام فأملي عليك مقاصدها، فكتبها الشيخ الأديب في ذلك المجلس في لحظة ودفعها إليه وقد كتب عنوان كل كتاب منها، فلما وقف عليها بلال قال: لم تزد والله على ما في نفسي من الجواب شيئاً ولم تنقص عنه، ففوض إليه واعتمد عليه.
وذكر أنه استأذنه يوماً على ما يجيب به عن كتب وصلت إليه، ويثيب به آخرين وفدوا عليه، فقال له يا مولاي الأديب، الدولة دولتك، والمال مالك، فأجب، وأثب، كيف شئت، وبما شئت.
وذكر أن الأديب أبا بكر كان من سؤدده أنه إذا سمع بقدوم قافلة إلى البلد خرج إلى الباب واستخبر عمن فيها من الأدباء والفقهاء، فإذا ظفر منهم بأحد بالغ في إكرامه واستخلاص بضاعته إن كان تاجراً، وإن كان باعه في الأدب قصيراً عمل له الشعر على لسانه واستنجز له الصلة، ثم أنزله مدة مقامه وزوده عند رحيله.
قال عمارة في مجموعه وهذه القصة جرت له معي، فإني قدمت عدن وأنا حينئذ لا أحسن الشعر، فعمل قصيدة على لساني، حتى فزت عند صاحب عدن بالأماني، فلما عزمت على السفر قال إنك قد اتسمت عند القوم بسمة شاعر، فانظر لنفسك وطالع كتب الأدب ولا تجمد على الفقه وحده، فإن فضيلة اللسان حلية الإنسان، ثم قدمت في العام الثاني وقد علمت شعراً أصلح من الأول ومعي إنسان جمال، فقال لي الأديب ما رأيك أن تنفع هذا الإنسان بشيء لا يضرنا، قلت: وما هو؟ قال نعمل قصيدة على لسانه، ففعل واستنجز له صلة من الداعي محمد بن سبأ. فلما انفض الجمع دعاني الداعي وقال إذا سألتك عن شيء تنصحني؟ قلت: نعم، قال أظن أن هذا الإنسان الذي أخذ له الأديب الدنانير جمالاً، قلت: هو والله جمال وإنما فضل طباع الأديب ومعونتكم له على فعل الخير صيرت هذا ومن يجري مجراه شاعراً، فضحك الداعي وأعاد الجمال فزاده ذهباً.
قال ومن أَخباره أَنّ إِنساناً يقال له أَبو طالب بن الطّرائفي مدح الدّاعي محمد بن سبأ في سنة ستّ وثلاثين بقصيدة أَبي الصلت أُميّة التي مدح بها الأَفضل وأَوّلها:
نَسخَتْ غرائبُ مَدْحِك التَّشبيبا ... وكفى به غَزلاً لنا ونسيبا
ومنها:
وأَنا الغريب مكانُه وبيانُه ... فاجُعل نوالك في الغريب غَريبا