أنّ هذا أزهر السمان رجل من أهل الكوفة، كان يصحب أبا جعفر، رضي الله عنه، في زمان بؤسه، قبل الخلافة. فلما فوّضت الخلافة الى المنصور، جاءه أزهر مهنّئاً بذلك، فحجبه. فترصّد له في مجلس حفْل، فسلمَ عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ قال: جئت مهنئاً بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد قضيت وظيفة الهناء، فلا تعُدْ إليّ. فمضى. وعاد في القابل، فحجبه، فسلّم عليه في مثل ذلك المجلس، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: سمعت أنّك مريض، فجئت عائداً، فقال: أعطوه ألف دينار وقولوا له: قد قضيت وظيفة العيادة، فلا تعُدْ إليّ، فإني قليل الأمراض. فمضى. وعاد في القابل، فقال له في مثل ذلك المجلس: ما الذي جاء بك؟ قال: كنت سمعت منك دعاءً مستجاباً، فجئت أتعلّمه منك. فقال: يا هذا، إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله تعالى به أن لا تأتيني، وأنت تأتي! وله القطعة التي يغنّى بها في بغداد، في غاية الحسن والرّونق، الصافي عن القذى والرّنَق:
يا من هجرَتْ ولا تُبالي ... هل ترجعُ دولة الوصال
ما أطمعُ يا عذاب قلبي ... أن ينعَم في هواكِ بالي
الطّرفُ كما عهدتِ باكٍ ... والجسمُ كما تريْن بالِ
ما ضرّكِ أن تعلّليني ... في الموصل بموعدٍ مُحالِ
أهواكِ وأنت حظُّ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي
أيامُ عنايَ فيك سودٌ ... ما أشبههنّ باللّيالي
والعُذّلُ فيك قد نهوْني ... عن حبّك ما لهم ومالي
يا مُلزمي السلوّ عنها ... الصّبّ أنا وأنت سالِ
والقولُ بتركها صوابٌ ... ما أحسنَه لو استوى لي
في طاعتها بلا اختياري ... قد صحّ بعشقها اختلالي
طلّقتُ تجلّدي ثلاثاً ... والصبوةُ بعدُ في حبالي
ذا الحكمُ عليّ من قضاهُ ... من أرخصني لكلِّ غالِ
وقوله في ابن شماليق كَثير:
ابنُ شماليقَ ليس فيه ... نفعُ صغيرٍ ولا كبيرِ
فكيف أثني عليه يوماً ... بمنطِقِ الحامدِ الشّكور
واللهُ قد قال فيه قبلي ... يهجوه لا خيرَ في كَثير
وله في قصيدة يهجو فيها جماعة، منهم بعض الهاشميين، يطعن على نسبه:
يكنى أبا العباس وهْو بصورة ... حكمت عليه وأُسجلت بمُغمِّرِ
في كفِّ والدِه وفي أقدامِه ... آثارُ نيلٍ لا يزالُ وعُصفرِ
وإذا رأى البركيلَ يخفقُ خيفةً ... ذي الهاشميّة أصلُها من خيبرِ
نسَبٌ الى العبّاس ليس نظيرُه ... في الضّعف غير الباقِلاء الأخضرِ
يُنادى، في بغداد، على الباقِلاء الأخضر، بالعبّاسي.
وله:
رنا عن الفاترِ الكحيل ... والحتفُ في سُمّه القَتولِ
كم سلّ من مقلتيْه سيفاً ... تقبيلُه مُنيةُ القتيل
أحورُ حرُّ القلوبِ فيه ... مولِّدٌ حيرةَ العقولِ
لم يسْلُ فيه فؤادُ صبٍّ ... هام على خدّه الأسيلِ
وا ويلتي قولُ مستغيثٍ ... من ظالم واهبٍ بخيلِ
من سُقم جفنيه سُقم جسمي ... ومن ضنى خصرِه نُحولي
وأنشدتُ له في أنوشروان الوزير، في ذمّ التّواضع:
هذا تواضُعك المشهورُ عن ضعَةٍ ... فصرتَ من أجله بالكبر تُتّهَمُ
قعدْت عن أمل الرّاجي وقمت له ... فذا وُثوبٌ على الطُّلاب لا لهُم
وأنشدت له في أبي بكر وعمر ابني السّامري البيّع:
أبو بكر أخو عُمر سباني ... بسهمَي مُقلتيه وحاجبيْهِ
إذا مشَيا معي أبصرتُ أفقاً ... أحاطَ به السّنا من جانبيْهِ
يموت الحاسدون إذا رأونا ... فنخرُج بالنّبيّ وصاحبَيْه
إشارةً الى قول المشيعين للجنائز: النبي وصاحبيه.
ومما أنشد الوزير ابن هبيرة، في آخر عمره، قطعة جيميّة، استحسنتُها، فكتبتها:
أهلاً وسهلاً بمولانا فأوبتُه ... لكلّ شاك بها من ضُرّه فرَجُ
لا أعدَم اللهُ فيك الخلْقَ نافعَهم ... يا من به تفخرُ الدُنيا وتبتهجُ