وكان جيد الشعر رقيقه، وله فضله على شعر غيره، فلأجل ذلك قدمت ذكره، وفضلت شعره، ذكره مجد العرب العامري بأصفهان في جمادى الأولى سنة ستٍ وأربعين وخمسمائة قال: حدثني بعض الفضلاء بالشام مخبراً عن ابن الخياط في حداثه سنه. أنه قال: دخلت على الأمير أبي الفتيان محمد بن سلطان ابن حيوسٍ الشاعر في داره بحلب، وهو شيخٌ كبير القدر والسن، فوجدته متكئاً على فراشه، وعنده حلاوةٌ يأكلها، فما استوى لي جالساً وقال: من أين الرجل؟ فقلت: من دمشق. قال فما صناعتك؟ قلت: الشعر. قال هات مما أحدثت الآن من شعرك. فأنشدته، وذلك في سنة اثنتين وستين وأربعمائةٍ:
لمْ يَبْقَ عِنْدي ما يُباعُ بِحَبَّةٍ ... وَكَفاكَ شاهِدُ مَنْظَري عَنْ مَخْبَري
إلاّ صُبابةُ ماءِ وَجْهٍ صُنْتُها ... مِنْ أَنْ تُباعَ وَأَيْن أَيْنَ المُشَتري
فقال: كرمت عندي، ونعيت إلي نفسي، فإن الشام لا تخلو عن شاعرٍ مجيدٍ، ولا يجتمع فيها شاعران، فأنت وراثي في هذه الصناعة، ولكن لا تنتفع بشعرك في هذه البلدة وفيها مثلي، فاقصد بني عمارٍ بطرابلسٍ، فإنهم يحبون هذا الفن. ووصلني ابن حيوسٍ بثيابٍ ودنانير. ومضيت إلى بني عمارٍ ومدحتهم، فأحسنوا إلي وألجأوني إلى إجادة شعري.
وابن حيوسٍ كان أصنع من ابن الخياط، لكن لشعر ابن الخياط طلاوةٌ ليست لشعره. وله:
يُحْتاجُ في الشِّعْرِ إلى طُلاوَهْ
والشِّعْرُ ما لمْ يَكُ ذا حَلاوَهْ
فَإنَّما سَماعُهُ شَقاوَهْ
وكان من ينظر إلى ابن الخياط يعتقد أنه جمالٌ أو حمالٌ لشكله وطوله وعرضه وبزته، وما كانت صورته تنبئ عن ذكائه ولطفه وفضله وفطنته.
ولم أذكر شعر ابن حيوسٍ في هذا المجموع، لكونه لم يكن في العصر الذي ذكرت شعراءه، لو أوردت شعره، لزمني أن أورد شعر معاصريه، فيطول الكتاب.
فمن قلائد قصائد ابن الخياط، وفرائد فوائده، قصيدته في مدح عضب الدولة أبق بن عبد الرزاق أمير دمشق، حكي عنه أنه قال: صقلت هذه القصيدة أربعين سنةً، وهي:
خُذا مِنْ صَبا نَجْدٍ أَماناً لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كادَ رَيّاها يَطيرُ بِلُبِّهِ
وَإيّاكُما ذاكَ النَّسيمَ فإنَّهُ ... مَتى هَبَّ كانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ
خَليَليَّ لَوْ أَحْبَبْتُما لَعَلِمْتُمامَحَلَّ الْهَوى منْ مُغْرَمِ الْقَلْبِ صَبِّهِ
تَذَكَّرَ وَالذِّكرى تَشوقُ وَذُو الْهَوى ... يَتوقُ ومَنْ يَعْلَقْ بهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ
غَرامٌ عَلَى يَأْسِ الْهَوى وَرَجائهِ ... وَشَوْقٌ عَلى بُعْدِ الْمَزارِ وَقُرْبِه
وَفي الرَّكْبِ مَطْوِيُّ الضُّلوعِ عَلَى جَوًى ... مَتى يَدْعُهُ داعي الْغَرامِ يُلَبِّهِ
إذا خَطَرَتْ منْ جانِبِ الرَّمْلِ نَفْحَةٌ ... تَضَمَّنَ منها داءَهُ دُونَ صَحْبهِ
وَمُحْتَجِبٍ بَيْنَ الأَسِنَّةِ مُعْرِضٍ ... وَفي الْقَلْبِ مِنْ إعْراضِه مِثْلُ حُجْبِهِ
أَغارُ إذا آنَسْتُ في الْحَيِّ أَنَّةً ... حِذاراً وَخَوْفاً أَنْ تكُونَ لِحُبِّهِ
لم يسبقه أحدٌ إلى هذه المبالغة في الغيرة.
وَيَوْمَ الرِّضى وَالصَّبُّ يَحْمِلُ سُخْطَهُ ... بِقَلْبٍ ضَعيفٍ عَنْ تَحَمُّلِ عَتْبِهِ
جلاَ ليَ بَرّاقَ الثَّنايا شَتِيتَها ... وَحَلأَّني عَنْ بارِدِ الْوِرْدِ عَذْبِهِ
كَأَنِّيَ لمْ أَقْصُرْ بهِ اللَّيْلَ زائِراً ... تَحولُ يَدي بَيْنَ الْمِهادِ وَجَنْبِهِ
وَلا ذُقْتُ أَمْناً مِنْ سَرِارِ حُجُولِهِوَلا ارْتَعْتُ خَوْفاً مِنْ نَميمَةِ حُقْبهِ
فَيا لَسَقامي مِنْ هَوى مُتَجَنِّبٍ ... بَكى عاذِلاهُ رَحْمَةً لِمُحِبِّهِ
وَمِنْ ساعَةٍ لِلْبَيْنِ غَيْرِ حَميدَةٍ ... سَمَحْتُ بِطَلِّ الدَّمْعِ فيها وَسَكْبِهِ
أَلاَ لَيْتَ أَنّي لَمْ يَحُلْ بَيْنَ حاجِرٍ ... وَبَيْني ذُرى أَعْلامِ رَضْوى وَهَضْبِهِ
وَلَيْتَ الرِّياحَ الرّائِحاتِ خَوالِصٌ ... إلَيَّ وَلَوْ لاقَيْنَ قَلْبي بِكَرْبهِ
أَهيمُ إلى ماءٍ بِبُرْقَةِ عاقِلٍ ... ظَمِئْتُ عَلى طُولِ الوُرودِ بِشُرْبهِ