فأول ما أقول في شكره الذي أفعم الأفق طيبا، وأسمع الصم خطيا واعتقادك في جهتي أن الوشاة أثنوا بالذي عابوا، وصافت سهامهم فما أصابوا، الغواة لا يتركون أديما صحيحا، ولا يدرون في المعالي رأيا رجيحا، بل يتسنمون إلى ذوائب الشرف بالأذى، ويطرقون المشارب الزرق الجمام بالقذى، فإن ألفوا مهزا، أوصادفوا الشفرة محزا، سدوا وألجموا وصرخوا بالغضاضة وهيمنوا، وأي حيلة فيمن يخلق مايقول، وإني بالخلاصة والسلامة من الناس شيء ما إليه سبيل، وما زلت مذ صحبت الأمجاد، وثافنت الحساد، أجعل هذه الأمور دبر الأذن، وأقنع لها بابلاء التجارب والفتن، علما بأن سري سيبينه اطراد الإعلان، وأن قول الغوي ستفضحه شواهد الامتحان، وبأواخر الأمور يقضى للأوائل، والله عز وجهه عند لسان كل قائل، ولو تتبعت كل وشاية بالتكذيب، وأجبت كل نعيق ونعيب، لما اتسع لغير ذلك العمر، ولا استراح من وساوسه الفكر، وعياذا أن يخفى الصواب بين عهدك الوفي، وظنك الألمعي، وتثبتك الشرعي، والله تعالى يعمر بالسؤدد ريعك، ويوسع بحمل أثقال المعالي وأعبائها ذرعك، ويجعل من كفايته ووقايته جنَّتَكَ من الزمن ودرعك.
وله من كتاب تعزيه إلى الأمير عبد الله ابن مزدلي بمصاب أخيه المستشهد: أدام الله تأييد الأمير الأجل محروسة بحسام القدر جوانبه، مكتنفة بجنن السعد مذاهبه، جارية مسرى الأنجم مراتبه، وأطال بقاءه، جابر صدوع الرئاسة عند انفصامها، وخلف سلف النفاسة وسطى نظامها، ولا زال توزن به الأوائل فيرجع، ويعارض بعزته بهيم النوائب فيصيح. كتبته من فؤاد دام، ودمع هام، ولب حائر، وقلب في جناحي طائر، ونفس يجري بذوبها النفس، ولا تفيق إلا ريثما تنتكس، بهذا الطارق المطرق، والنبأ المغص المشرق، والضارب بين مفرق الإسلام وجبينه، والمغيل في غيل الملك وعرينه، مصاب أخيك سقى الله ثراه، وضوأ بأنوار الشهادة أفقه وذراه، وبرد له بنوافح الرحمة مضجعا، وأزجى إليه الغوادي مربعا ثم مربعا، هلال ملك بادره السرار عند إبداره، ودوح مجد هصرته المنون أوان إثماره، حين مالت به الرئاسة كما اهتز الغصن تحت البارح، وافتر بابه عن شباة القارح، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما فيه للقضاء المصمم، وتأسفا منه على فرد يفدي بالخميس العرمرم، ولله دره حين التقت عليه الفوارس وحمى الوطيس واشتد التداعس، وعظم المطلوب فقل المساعد، وهب من سيفه مولى نصله لا يجارد، فرأى المنية، ولا الدنية، وجرع الحمام، ولا النجاء برأس طمرة ولجام، فشمر عن أكرم ساعد وبنان، وقضى حق المهند والسنان، ولبس قلبه فوق درعه، ولم يضق بالجلاد رحيب ذرعه.
وأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر
ومضى وقد وقع على الله أجره، ورفع في عليين ذكره، وخلد في ديوان الشهادة فخره ولا غرو أن عض الزمان في غارب، فالشر لا يحسب ضربة لازب، أو أناخ كلكله مرة، فالعيش طورا شماس وطورا غرة، ومثلك، دام أمرك من حلب الدهر أشطرا، وعرف الأيام بطونا وأظهرا، وخبر امتزاج النعم بالنوائب، وغني بفهم التجارب، يرغم بجميل الصبر أنف الحادث، ويفل بلامة الجلد جد الكارث، ويعلم أن الدهر وإن سر حينا فهمه ناصب، والدنيا إذا أخضر منها جانب جف جانب، فأنت أعلى الله يدك أثقف قناة، وأصلد صفاة، وأصلب على البري عودا، وأثقب مع الوري زنودا، من أن يضعضع الريب لهضبة عزمك ركنا، أو يعمر الخطب بساحة حلمك مغني، أو يقذف الدهر عليك بصرف، أو يبدع إلا بسجية وعرف لا يعتب الجازع الزمن، ولا يرد الفائت الحزن، والله عز وجل يلم بسعدك الشعث ويرأب الشعب، ويضفي من رئاستك الذوائب ويعلي الكعب، ويذيق الذين يضاهونك هونك، ويجعل الذين يحسدونك دونك.
وله يصف فحما:
جعلوا القرى للقر فحما حالكا ... قدح الزناد به فأورى نارا
فبدا دبيب السقط في جنباته ... كالبرق في جنح الظلام أنارا
ثم انبرى لهبا وثار كأنه ... في الحرق ذو حرق يطالب ثارا
فكأنه ليل تفجر فجره ... نهرا فكان على المقام نهارا
وله في الوداع:
أستودع الله من ودعته ويدي ... على فؤادي خوفا من تصدّعه
بدر من الود حازته مغاربه ... فالنفس قد أشخصت طرفا لمطلعه