للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانوا ملجأ اللاجين، وثمال الراجين، وموئل المعتفين، وكنف المستضعفين. تشد إليهم رحال الآمال، وتنفق عندهم فضائل الرجال، ويفوح في أرجائهم أرج الرجا، وتطيب بند نداهم أندية الفضلاء. لا يلفي في ذراهم البائس بؤس الباس، وكم قصم بجودهم الفقير فقار الفقر والإفلاس. بشرهم للمرتجي بشير، وملكهم للاجيء وأثرهم في الخيرات أثير، والحديث عن كرمهم كثير. ليوث الوغى، وغيوث الندى، وغياث الورى. سلكوا محجة الهدى والحجا، وأودعوا قلوب عداهم الشجن والشجا، وأحشاء حاسدهم بحسك الحسد قريحة، ونفوس مواليهم ومواليهم بدولتهم مستريحة. وما زال ذيل نعمهم سابغاً، ومشرب دولتهم سائغاً، وأمورهم مستقيمة، والجدود عندهم مقيمة، إلى أن قتل صدقة، وأظلمت أيامه المشرقة، وانتقلت الإمارة إلى دبيس ابنه، وإن أمر الإمارة على أساس أبيه لم يبنه، فتارةً يقيم وتارةً يخرج، ومرةً يمر وآونةً يدرج.

ولقد بارز المسترشد بالله مراراً بالمحاربة، فهزم وكيل جنده كيل المحاربه.

وما برحت دولتهم تنقص، وظلهم يقلص، إلى أن اضمحلت إلى زماننا هذا بالكليه، أعاذنا الله من مثل هذه البلية، فلقد كانوا ذوي الهمم العلية.

ومنازلهم ب الحلة حلت، وبعدما كانت مصونة أحلت، وعقود سعودهم حلت.

وما كانوا يعتمدون قول الشعر، إلا لحادثة على سبيل الندر. وسأذكرهم على الترتيب، وأقدم الأب البعيد على الأب القريب، وأسأل التوفيق من الله السميع المجيب: بهاء الدولة أبو كامل، منصور، بن دبيس، نور الدولة الأسدي، أبي الفتح والد سيف الدولة صدقة، من الطبقة الأولى.

توفي أبوه أبو الأغر دبيس سنة أربع وأربع مئة.

كان منصور منصوراً في الأمور، مقصوراً زمامه على إيواء طالب القرى المقرور، مخاطباً لدفع الخطوب، مجانباً عند لقاء زائري جنابه القطوب.

فارس البيداء وشجاعها، وليث الهيجاء وشجاعها، ومجند العساكر وجماعها، دأبه لقاء الكتائب وقراعها. توفرت له الطاعة من العرب، وتوسلت إلى القرب منه بالقرب.

وبينه وبين شرف الدولة، مسلم، بن قريش مكاتبات، ومخاطبات ومجاوبات، سأورد منها ما وقع إلي عند ذكر شرف الدولة.

وأذكر ها هنا مقطعات من أشعاره، إبقاءً لجميل آثاره. فعزائمه: بها الدولة استقامت، وعيون الحادثات عنها نامت.

له من قصيدة، يفتخر:

أولئك قومي: إِنْ أعُدَّ الّذي لهم ... أُكَرَّمْ، وإنْ أفخَرْ بهم لا اُكَذَّبِ

هُمُ ملجأ الجاني إذا كان خائفاً ... ومأوى الضَّرِيكِ والفقيرِ المُعَصَّبِ

بِطاءٌ عن الفحشاء لا يحضُرونها ... سِراعٌ إلى داعي الصَّباح المثَوِّبِ

مَناعِيشُ للمولى، مَساميحُ بالقِرى ... مَصالِيتُ تحتَ العارضِ المتلهِّبِ

وجَدت أبي فيهم وخالي كِلَيْهِما ... يُطاع ويُؤتَى أمرُه وَهْوَ مُحْتَبِ

فلم أتعمّلْ للسِّيادة فيهِمُ ... ولكن أتتني وادعاً غير مُتْعَبِ

وقرأت في المذيل ل ابن الهمذاني: أنه أقام بقرب الحريم الطاهري، فعاشر الأذكياء من شارع دار الرقيق، وخرج بمقامه في الحضر عن عادة البادية.

ومن شعره:

فإِنْ أنا لم أَحمِل عظيماً، ولك أَقُدْ ... لُهاماً، ولم أصبر على فعل معظمِ

ولم أُجِرِ الجاني وأمنع حَوْزَهُ ... غَداةَ أنادى للفخار فأنتمي

وله:

رعت مَنْبِتَ الضُّمْران من أَيْمَنَ الحِمَى ... إلى السِّدر من ذات الأَجارع فالوَهْدِ

نعم، وسقى الله الحِمَى كلَّ مُزنةٍ ... مهدَّلةِ الأَطْباءِ صادقةِ الرَّعْدِ

وحنّت إلى بغدادَ والغَوْرُ دُونَها ... ألا ليت شعري أينَ بغدادُ من نَجْدِ؟

وذكرَّني سعداً وأيّامَهُ الأُلى ... مضين. ألا واحَرَّ قلبي على سعد

وقرأت في ذيل السمعاني، يقول: قرأت في كتاب سر السرور: الأمير منصور شعره مما يرتاح له الطبع السليم، ويهتز به القلب السقيم، اهتزاز الغصن القويم بعليل النسيم، نحو قوله:

ما لا مِني فيك أعدائي وعُذّالي ... إلا لغفلتهم عنّي وعن حالي

لا طيَّب الله لي عيشاً أفوزُ به ... إنْ دَبَّ سكرُ سُلّوٍ منك في بالي

وقوله:

<<  <  ج: ص:  >  >>