ثم قال الغزالي في "الإحياء" (٣/ ١٩٩). • وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه, وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه, فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه, ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه, وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد؛ لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصير ما تكلفه أولاً: طبعاً آخراً ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز، أو على النفاق، أو الخوف، وأن ذلك مذلة ومهانة, وذلك من خداع الشيطان ومكايده, بل المجاملة - تكلفاً كانت أو طبعاً - تكسر سورة العداوة من الجانبين، وتقل مرغوبها، وتعود القلوب التآلف والتحاب وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض. فهذه هي أهوية الحسد وهي نافعة جداً، إلا أنها مرة على القلوب جداً، ولكن النفع في الدواء المر، فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء، وإنما تهون مرارة هذا الدواء، أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه، وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل، وعند ذلك يريد ما لا يكون، إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة. ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين: إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون، والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه، وأما الثاني: فللمجاهدة فيه مدخل، وتحصيله بالرياضة ممكن، فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي. =