للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حُكَّامِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ وَبَعْضُهُمْ بِقَوْلِ الْآخَرِ.

يَعْنِي: بَعْضُ الْحُكَّامِ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ خِلَافِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ مَا لَمْ يَعْتَبِرْ الْعُلَمَاءُ وَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فِيهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فِي رِبَا النَّقْدِ حَتَّى أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَعْتَبِرْ خِلَافَهُ حَتَّى لَوْ قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يُجِيز مِنْ ذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِحَقِيقَةِ الِاخْتِلَافِ فِي صَيْرُورَةِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ.

وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَصَّافِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا اُعْتُبِرَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِينَ.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمَنْ مَعَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَفِ، وَالْقَاضِي الْإِمَامُ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ اعْتَبَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي آخِرِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَصُورَةُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَوْ أَنَّ إمَامًا رَأَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَسَبَاهُمْ وَقَسَمَهُمْ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ بِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَجَلُّ شَيْخُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ذَكَرَ فِي قَضَاءِ الْجَمْعِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةٍ وَخِلَافَهُ وَاعْتَبَرَهُ.

وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ نَظِيرُ حُكْمِهِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهِدَاتِ وَأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيمَا رَوَى الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفِي الْمُنْتَقَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِاشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ لَا لِحَقِيقَةِ الِاخْتِلَافِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجَامِعِ وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْأَقْضِيَةِ صُورَةُ مَا ذَكَرَ فِي السَّيْرِ لَوْ رَأَى إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلَ الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَبِلَ جَازَ وَإِنْ كَانَ هَذَا خَطَأً عِنْدَ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَكَمَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدًا فِيهَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ كَذَلِكَ تَصِيرُ مُجْتَهَدًا فِيهَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي مِثْلِهَا، كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.

قَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوَاضِعِ الْخِلَافِ وَيَتْرُكَ قَوْلَ الْمُخَالِفِ وَيَقْضِي بِرَأْيِهِ حَتَّى يَصِحَّ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَوَاضِعَ الِاجْتِهَادِ وَالِاخْتِلَافِ فَفِي نَفَاذِ قَضَائِهِ رِوَايَتَانِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْفُذُ، كَذَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.

وَلَوْ ادَّعَى الْمُدَّعِي فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ عَنْ الْإِنْكَارِ بَدَلَ الصُّلْحِ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لَا يَلْزَمُنِي أَدَاؤُهُ بِسَبَبِ فَسَادِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِصِحَّةِ الصُّلْحِ وَأَبْطَلَ قَوْلَ الْمُخَالِفِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، كَذَا ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شُرُوطِهِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَجَامِعِ الْفَتَاوَى الْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا وَلَكِنَّهُ قَضَى بِتَقْلِيدِ فَقِيهٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِهِ يَنْفُذُ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ وَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْقُضَهُ لَيْسَ لَهُ نَقْضُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>