للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْقَاضِي إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَقَالَا: لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَإِذَا نَسِيَ رَأْيَهُ وَقَضَى بِرَأْيِ غَيْرِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ رَأْيَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَقَالَ: يُرَدُّ قَضَاؤُهُ، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْفَتْوَى، وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ التَّارِكَ لِمَذْهَبِهِ عَمْدًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا لِهَوًى بَاطِلٍ لَا لِقَصْدٍ جَمِيلٍ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ فَأَمَّا الْمُقَلَّدُ فَإِنَّمَا وَلَّاهُ لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَثَلًا فَلَا يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، هَكَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ.

وَإِنْ قَضَى فِي حَادِثَةٍ هِيَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ بِرَأْيِهِ ثُمَّ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ يُعْمَلُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي وَلَا يُوجِبُ هَذَا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَالِثًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْأَوَّلِ يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الثَّانِي، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.

قَالَ صَاحِبُ الْأَقْضِيَةِ: وَإِذَا زَنَى رَجُلٌ بِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَجَلَدَهُ الْقَاضِي وَرَأَى أَنْ لَا يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ فَأَقَرَّهَا مَعَهُ وَقَضَى بِذَلِكَ نَفَذَ قَضَاؤُهُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِهِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً زَنَى بِهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِنَفَاذِ هَذَا النِّكَاحِ فِي نَفَاذِ هَذَا الْقَضَاءِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِجَوَازِ نِكَاحِ الَّتِي زَنَى بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا نَفَذَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، كَذَا فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ.

وَإِذَا قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَعُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَانَا لَا يُجَوِّزَانِ بَيْعَهَا وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - آخِرًا: يَجُوزُ بَيْعُهَا ثُمَّ أَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَتَرَكُوا قَوْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - آخِرًا بَعْدَ هَذَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ: إنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ وَكَأَنَّهُ مَالٌ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ؟ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَرْفَعُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.

وَإِذَا ارْتَفَعَ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَكُنْ قَضَاءُ هَذَا الْقَاضِي فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إذَا لَمْ يَرْتَفِعْ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ كَانَ هَذَا قَضَاءً فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ يَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>