للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقوله تعالى «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به» سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة في الكلام، والمعنى إن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه فهو كقوله «وجزاء سيئة سيئة مثلها» أمر الله برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية في باب استيفاء الحقوق. يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقتصوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله وشرعه ورحمته، وفي الآية دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ يعني ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيرا من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين.

[فصل]

اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين: أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد، ونسخ هذا بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية، القول الثاني: أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري. قال بعضهم:

الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم. قوله عز وجل وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يعني على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل: معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضلوا إلى رحمة الله ورضوانه وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ يعني: ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم. قرئ في ضيق بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان. وقال أبو عمر: والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيد الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكن وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى: ولا تك في أمر ضيق من مكرهم. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذا الكلام من المقلوب، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلا في الصفة فكان المعنى فلا يكن الضيق حاصلا فيك إلا أن الفائدة في قوله: ولا تك في ضيق، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي اتقوا المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ يعني بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق، وخلق مع الخلق وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم ابن حيان عند الموت: أوص. فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكني أوصيك بخواتيم سورة النحل. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

<<  <  ج: ص:  >  >>