الله تعالى. قوله عز وجل: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني وابعث في الأمة المسلمة أو الذرية وهم العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وقوله: رسولا منهم يعني ليدعوهم إلى الإسلام ويكمل الدين والشرع، وإذا كان الرسول منهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه كان أقرب لقبول قوله ويكون هو أشفق عليهم من غيره، وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله «رسولا منهم» هو محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن إبراهيم عليه السلام إنما دعا لذريته وهو بمكة ولم يبعث من ذريته بمكة غير محمد صلّى الله عليه وسلّم فدل على أن المراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم وروى البغوي بإسناده عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور ساطع أضاءت لها منه قصور الشام» وقوله: لمنجدل في طينته معناه أنه مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح وأراد بدعوة إبراهيم قوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، فاستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم في آخر الزمان وأنقذهم به من الكفر والظلم وأراد ببشارة عيسى عليه السلام قوله في سورة الصف:
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي يقرأ عليهم آياتِكَ يعني ما توحيه إليه وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن الذي كان يتلوه عليهم هو القرآن فوجب حمله عليه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني معاني الكتاب وحقائقه لأن المقصود الأعظم تعليم ما في القرآن من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام الشرعية فلما ذكر الله تعالى أولا أمر التلاوة، وهي حفظ القرآن ودراسته ليبقى مصونا عن التحريف، والتبديل ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره وَالْحِكْمَةَ أي ويعلمهم الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى الرجل حكيما إلّا إذا اجتمع فيه الأمران. وقيل: الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرناه من الإصابة في القول والعمل ووضع كل شيء موضعه، وقيل الحكمة معرفة الأشياء بحقائقها. واختلف المفسرون في المراد بالحكمة هاهنا فروى ابن وهب قال: قلت لمالك ما الحكمة. قال: المعرفة بالدين والفقه فيه والاتباع له. وقال قتادة: الحكمة هي السنة وذلك لأن الله تعالى ذكر تلاوة الكتاب وتعليمه ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد بها شيئا آخر وليس ذلك إلّا السنة. وقيل الحكمة: هي العلم بأحكام الله تعالى التي لا يدرك علمها إلّا ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمعرفة بها منه. وقيل الحكمة: هي الفصل بين الحق والباطل. وقيل: هي معرفة الأحكام والقضاء وقيل: هي فهم القرآن، والمعنى ويعلمهم ما في القرآن من الأحكام والحكمة وهي ما فيه من المصالح الدينية والأحكام الشرعية. وقيل: كل كلمة وعظتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان، وسائر الأرجاس والرذائل والنقائص، وقيل: يزكيهم من التزكية أي يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة، إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ ثم ختم إبراهيم الدعاء بالثناء على الله تعالى فقال إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قال ابن عباس: العزيز الذي لا يوجد مثله. وقيل: هو الذي يقهر ولا يقهر وقيل هو المنيع الذي لا تناله الأيدي، وقيل العزيز القوي والعزة القوة من قولهم أرض عزاز أي صلبة قوية الْحَكِيمُ أي العالم الذي لا تخفى عليه خافية، وقيل هو العالم بالأشياء وإيجادها على غاية الإحكام. قوله عز وجل:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه إلى الإسلام مهاجرا وسلمة، وقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ أي يترك دينه وشريعته، وفيه تعريض باليهود والنصارى ومشركي العرب