فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي أنهى إليه الوسوسة فأسر إليه ثم بين تلك الوسوسة ما هي فقال قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلدا وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا يبيد ولا يفنى رغبة في دوام الراحة، فكان الشيء الذي رغب الله فيه آدم رغبه إبليس فيه، إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراز عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها وآدم مع كمال علمه بأن الله تعالى هو خالقه وربه ومولاه وناصره، وإبليس هو عدوه أعرض عن قول الله تعالى ولم يرد المخالفة ومن تأمل هذا السر عرف أنه لا دفع لقضاء الله ولا مانع منه. وقوله تعالى فَأَكَلا مِنْها يعني أكل آدم وحواء من الشجرة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي عريا من الثياب التي كانت عليهما حتى بدت فروجهما وظهرت عوراتهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يلزقان بسوءاتهما من ورق التين وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ أي بأكل الشجرة فَغَوى أي فعل ما لم يكن له فعله وقيل أخطأ طريق الحق وضل حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عنه فخاب ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب. قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال آدم عاص، لأنه إنما يقال لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه يقال خاط ثوبه ولا يقال هو خياط حتى يعاود ذلك مرارا ويعتاده.
(ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما فحج آدم موسى».
وفي رواية لمسلم «قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين سنة قال فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى. قال له نعم قال فهل تلومني على أن عملت عملا كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى».
[(الكلام على معنى الحديث وشرحه)]
قوله احتج آدم وموسى: المحاجة المجادلة والمخاصمة يقال حاججت فلانا فحججته أي جادلته فغلبته.
قال أبو سليمان الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر والقضاء من الله تعالى على معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله فحج آدم وموسى من هذا الوجه وليس كذلك. وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وإكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها شرها.
والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر والقضاء في هذا معناه الخلق وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم إرادة واختيار.
فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء. فمن رام الفصل بينهما فقد رام هذا البناء ونقضه وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وإنما كان تناوله الشجرة سببا لنزوله إلى الأرض التي خلق لها وإنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه ولذلك قال أتلومني على أمر قدره الله علي من قبل أن يخلقني.
[(فصل: في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك)]
قال الإمام فخر الدين الرازي: اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة،