((فصل في حكم هذه الآية)) اختلف العلماء في ذلك، فقال أبو سعيد الخدري: هذا في أهل بدر خاصة لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ولم تكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين ولأنها أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه والمسلمون معه فشدد الله عليهم أمر الانهزام وحرمه عليهم يوم بدر فأما بعد ذلك اليوم فإن المسلمين بعضهم فئة بعض فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك قال يزيد بن أبي حبيب: أوجب الله النار لمن فرّ يوم بدر فلما كان يوم أحد قال الله تعالى إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ثم كان يوم حنين بعده فقال سبحانه وتعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وقال عبد الله بن عمر: كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا فقلنا يا رسول الله نحن الفرارون قال: لا بل أنتم الكرارون إنا فئة المسلمين. قوله فحاص الناس حيصة، يعني جال الناس جولة يطلبون الفرار من العدو. والمحيص: الهرب. وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر بن الخطاب، فقال: لو انحاز إليّ كنت له فئة أنا فئة كل مسلم.
وقال بعضهم: حكم الآية عام في حق كل من ظهره منهزما بدليل قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهذا خطاب عام فيتناول جميع الصور وإن كانت الآية نزلت في غزاة بدر لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وجاء في الحديث «من الكبائر الفرار من الزحف» وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت بذلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا منهم ويولوهم ظهورهم وإن كان العدو أكثر من المثلين جاز لهم أن يفروا منهم قال ابن عباس من فرّ من ثلاثة لم يفر ومن فرّ من اثنين فقد فرّ قوله تعالى:
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ قال مجاهد: سبب نزول هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن قتال أهل بدر كان الرجل يقول: أنا قتلت فلانا، ويقول الآخر: أنا قتلت فلانا فنزلت هذه الآية والمعنى فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم يعني بنصره إياكم وتقويتكم عليهم وقيل: معناه ولكن الله قتلهم بإمداده إياكم بالملائكة.
قال الزمخشري: الفاء في قوله فلم تقتلوهم جواب شرط محذوف تقديره وإن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى قال أهل التفسير والمغازي لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، انطلقوا حتى نزلوا بدرا ووردت عليهم روايا قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد فأخذوهما وأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين قريش؟ قالا:
هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟ قالا: كثير. قال:
ما عددهم؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما عشرة ويوما تسعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة إلى ألف. ثم قال لهما: من فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام والحارث بن عامر وطعمة بن عدي والنضر بن الحارث وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل، وهو الكثيب الرمل جاء إلى الوادي. فقال:
«اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني» فأتاه جبريل