فأخبروه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالتهم وكفرهم فكان هؤلاء يظهرون الإيمان وهم في ذلك منافقون، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم وشأنهم وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ يعني: إنهم دخلوا كافرين وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان فهم كافرون في حالتي الدخول والخروج وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ يعني من الكفر الذي في قلوبهم.
قوله عز وجل: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وترى يا محمد كثيرا من اليهود وكلمة «من» يحتمل أن تكون للتبعيض. ولعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى:
وترى كثيرا منهم يُسارِعُونَ. المسارعة في الشيء: المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير. ومنه قوله تعالى: يسارعون في الخيرات وضدها العجلة، وتقال في الشر في الأغلب وإنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ الفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها. والإثم اسم جامع لجميع المعاصي والمنهيات فيدخل تحته العدوان وأكل السحت، فلهذا ذكر الله العدوان وأكل السحت بعد الإثم والمعاصي وقيل الإثم ما كتموه من التوراة والعدوان ما زادو فيها والسحت هو الرشا وما يأكلونه من غير وجهه لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون وهو مسارعتهم إلى الإثم والعدوان وأكلهم السحت.
قوله تعالى: لَوْلا يعني هلا وهي هنا بمعنى التحضيض والتوبيخ يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كلهم من اليهود لأنه متصل بذكرهم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعني الكذب وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ والمعنى هلا نهى الأحبار والرهبان، اليهود عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني الأحبار والرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي. وهذا يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن الله تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية. قال ابن عباس: ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
[[سورة المائدة (٥): آية ٦٤]]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
قوله عز وجل: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي. قال ابن عباس: إن الله قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة.
فعند ذلك قال فنحاص: يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء. فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله، لا جرم لأن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخبارا عنهم: وقالت اليهود يد الله مغلولة. يعني نعمته مقبوضة عنا. وقيل: معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه وذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل.
والقول الأول أصح، لقوله تعالى: ينفق كيف يشاء. واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ والسبب أن اليد آلة لكل