قوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ يعني الأنصار توطنوا الدار وهي المدينة واتخذوها سكنا مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أنهم أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين والمعنى والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي حزازة وغيظا وحسدا مِمَّا أُوتُوا أي أعطي المهاجرين من الفيء دونهم وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة فطابت أنفس الأنصار بذلك وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي ويؤثر الأنصار المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ثم أرسل به إلى أخرى فقالت مثل ذلك وقلن كلهن مثل ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يضيفه يرحمه الله فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشيء ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة» زاد في رواية «فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ». (ق) عن أبي هريرة قال «قالت الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقالوا تكفونا ونشرككم في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا»(خ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها فقال أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي» وفي رواية «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» الأثرة بفتح الهمزة والثاء والراء وضبطه بعضهم بضم الهمزة وإسكان الثاء والأول أشهر ومعناه الاستئثار وهو أن يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم غيركم فيفضل في نصيبه من الفيء والاستئثار الانفراد بالشيء وقيل الأثرة الشدة والأول أظهر وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النضير للأنصار «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة فقالت الأنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فأنزل الله عز وجل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» والشح في كلام العرب البخل مع الحرص وقد فرق بعض العلماء بين البخل والشح فقال البخل نفس المنع والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع.
ولما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بما أرادوا وروي أن رجلا قال لابن مسعود إني أخاف أن أكون قد هلكت قال وما ذاك قال إني أسمع الله يقول ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء فقال عبد الله ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل وقال ابن عمر ليس الشح أن يمنع الرجل ماله إنما الشح أن تطمع عين الرجل فيما ليس له وقيل الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على ارتكاب المحارم وقيل من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه فقد وقاه شح نفسه (م) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع» أخرجه أبو داود الهلع