درعه عند أبي الشحم اليهودي على طعام أخذه إلى أجل، ولم يكن ذلك في سفر ولا عند عدم كاتب. قلت ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة دون الحضر، ولكن لما كان السفر مظنة لإعواز الكاتب. والإشهاد أمر الله تعالى به على سبيل الإرشاد إلى حفظ الأموال لمن كان على سفر بأن يقيم التوثيق بالارتهان مقام الكتابة والإشهاد. واتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر والسفر جميعا ومع وجود الكاتب وعدمه. وقال مجاهد:
لا يجوز إلّا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية وأجاب الجمهور عن ظاهر الآية أن الكلام إنما خرج على الأغلب لا على سبيل الشرط. واتفق العلماء على أن الرهن لا يتم إلّا بالقبض وهو قوله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يعني ارتهنوا واقبضوا، لأن المقصود من الرهن هو استيثاق جانب صاحب الحق وذلك لا يتم إلّا بالقبض فلو رهن ولم يسلم لم يجبر الراهن على التسليم، فإذا سلم الرهن لزم من جهته حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق ولم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يعني فليؤد المديون الذي عليه الحق الذي كان أمينا في ظن الدائن الذي هو صاحب الحق أمانته يعني حقه سمي الدين أمانة وإن كان مضمونا لائتمانه عليه حيث أمن من جحوده فلم يكتب ولم يشهد عليه ولم يأخذ منه رهنا حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن الذي ائتمنه وأن يؤدي إليه حقه الذي ائتمنه عليه ولم يرتهن منه عليه شيئا ثم زاد ذلك تأكيدا بقوله:
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي المديون في أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه، ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ يعني إذا دعيتم إلى إقامتها وأدائها وذلك لأن الشاهد متى امتنع من إقامة الشهادة وكتمها فقد أبطل بذلك حق صاحب الحق فلهذا نهى عن كتمان الشهادة وبالغ في الوعيد عليه فقال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْها يعني الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي فاجر قلبه والآثم الفاجر، وإنما أضيف الإثم إلى القلب لأن الأفعال من الدواعي والصوارف إنما تحدث في القلب فلما كان الأمر كذلك أضيف الإثم إلى القلب قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده عن كتمان الشهادة فإنه تعالى قال فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وأراد به مسخ القلب نعوذ بالله من ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يعني من بيان الشهادة وكتمانها ففيه وعيد وتحذير لمن كتم الشهادة ولم يظهرها. قوله عز وجل:
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وأهلها له عبيد وهو مالكهم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وهذا يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من دفعها، والمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق: وأجيب عن هذا بأن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إظهاره إلى الوجود، فهذا مما يؤاخذ الإنسان به. والقسم الثاني ما يخطر بالبال ولا يمكن دفعه عن نفسه لكن يكره ولا يعزم على فعله ولا إظهاره إلى الوجود فهذا معفو عنه بدليل قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. وقال قوم: إن هذه الآية خاصة ثم اختلفوا في وجه تخصيصها فقال بعضهم: هي متصلة بالآية التي قبلها وإنما نزلت في كتمان الشهادة ومعنى الآية وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أيها الشهود من كتمان الشهادة أي تخفوه أي تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهذا ضعيف، لأن اللفظ هام وإن كان واردا عقيب قضية فلم يلزم صرفه إليها. وقال بعضهم: إن الآية نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين والمعنى: وإن تبدوا أي تظهروا ما في أنفسكم يعني من ولاية الكفار أو تخفوه فلا تظهروه يحاسبكم به الله.
وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فقال قوم: هي منسوخة بالآية التي بعدها ويدل عليه ما روي عن