للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة التوبة (٩): الآيات ١١٦ الى ١١٧]

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى هو القادر على ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه يحكم فيهم بما يشاء يُحْيِي وَيُمِيتُ يعني أنه تعالى يحيي من يشاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من يشاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يعني أنه تعالى هو وليكم وناصركم ليس لكم غيره يمنعكم من عدوكم وينصركم عليهم.

قوله عز وجل: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الآية تاب الله بمعنى تجاوز وصفح عن النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ومعنى توبته على النبي صلى الله عليه وسلم: عدم مؤاخذته بإذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهي كقوله سبحانه وتعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وقال أصحاب المعاني: هو مفتاح كلام للتبرك كقوله سبحانه وتعالى فأن لله خمسه. ومعنى هذا: أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله فإن لله خمسه وللرسول فهو تشريف له. وأما معنى: توبة الله على المهاجرين والأنصار، فلأجل ما وقع في قلوبهم من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك لأنها كانت في وقت شديد وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية. وقيل: إن الإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد العظيمة التي حصلت لهم في ذلك السفر غفر الله لهم وتاب عليهم لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ضم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي لأجلها ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في تلك الغزوة من المهاجرين والأنصار وقد ذكر بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى تبوك في سبعين ألفا ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ يعني في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها والعسرة الشدة والضيق وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش الذي سار فيه يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة: منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون وما معهم إلا التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يخرجها من فيه ويعطيها صاحبه ثم يشرب عليها جرعة من الماء ويفعل صاحبه كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله قال أتحب ذلك قال: نعم فرفع يديه صلى الله عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل الله سحابة فمطرت فملأوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر أسنده الطبري عن عمر.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يعني من بعد ما قارب أن تميل قلوب بعضهم عن الحق من أجل المشقة والشدة التي نالتهم والزيغ في اللغة الميل. وقيل: همّ بعضهم أن يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم عند تلك الشدة التي نالتهم لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما خطر في قلوبهم فلأجل ذلك قال تعالى: ثُمَّ تابَ

<<  <  ج: ص:  >  >>