لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً يعني لا يعلمون شيئا من أمر الدين، لفظه عام ومعناه خاص وذلك أنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا وَلا يَهْتَدُونَ أي إلى الصواب. ثم ضرب لهم مثلا فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢): الآيات ١٧١ الى ١٧٢]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً النعيق صوت الراعي بالغنم، ولا يقال نعق إلّا للراعي بالغنم وحدها، ومعنى الآية: ومثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وهي لا تسمع إلّا صوتا فصار الداعي إلى الله وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الراعي، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها، ووجه المثل أن الغنم تسمع الصوت ولا تفطن للمراد وكذلك الكفار يسمعون صوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولكن لا ينتفعون به، وقيل معناه ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن الله ورسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفهم من الأمر والنهي إلّا الصوت فيكون المعنى بالمثل المنعوق به خارج عن الناعق. وقيل: معناه ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم، فهو لا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه غني عن الدعاء والنداء، فكذلك الكافر ليس له من دعاء الأصنام وعبادتها إلّا العناء والبلاء، والفرق بين هذا القول والقول الذي قبله أن المحذوف هنا هو المدعو وهي الأصنام وفي القول الأول المحذوف هو الداعي وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم فقال: صم لأنهم إذا سمعوا الحق ودعاء الرسول، ولم ينتفعوا به صاروا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع ولا يعقل كأنه أصم، بكم أي عن النطق بالحق عمي أي عن طريق الهدى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ قيل المراد به العقل الكسبي لأن العقل الطبيعي كان حاصلا فيهم قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ قيل إن الأمر في قوله: كلوا قد يكون للوجوب كالأكل لحفظ النفس ودفع الضرر عنها، وقد يكون للندب كالأكل مع الضيف وقد يكون للإباحة إذا خلا من هذه العوارض. والطيب هو الحلال (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله طيب ولا يقبل إلّا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك». قوله:
أشعث أغبر هو البعيد العهد بالدهن والغسل والنظافة. وقيل الطيب المستلذ من الطعام فلعل قوما تنزهوا عن أكل المستلذ من المطاعم فأباح الله تعالى لهم ذلك وَاشْكُرُوا لِلَّهِ يعني على نعمه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي اشكروا الله الذي رزقكم هذه النعم إن كنتم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه إلهكم لا غيره وقيل إن كنتم عارفين بالله وبنعمه فاشكروه عليها.
قوله عز وجل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ لما أمرنا الله تعالى في الآية التي تقدمت بأكل الطيبات التي هي الحلالات بين في هذه الآية أنواعا من المحرمات، أما الميتة فكل ما فارقته روحه من غير ذكاة مما يذبح. وأما الدم فهو الجاري وكانت العرب تجعل الدم في المصارين ثم تشويه وتأكله فحرم الله الدم. وأما الخنزير فإنه أراد بلحمه جميع أجزائه وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود لذاته بالأكل وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ يعني وما ذبح للأصنام والطواغيت وأصل الإهلال رفع الصوت وذلك أنهم كانوا يرفعون أصواتهم