سبحانه وتعالى قال لا تعلمهم نحن نعلمهم ثم بعد ذلك أعلمه بهم. وقال مجاهد: هذا العذاب الأول هو القتل والسبي وهذا القول ضعيف، لأن أحكام الإسلام في الظاهر كانت جارية على المنافقين فلم يقتلوا ولم يسبوا وعن مجاهد رواية أخرى أنهم عذبوا بالجوع مرتين. وقال قتادة: المرة الأولى هي الدبيلة في الدنيا وقد جاء تفسيرها في الحديث بأنها خراج من نار تظهر في أكتافهم حتى تنجم من صدورهم يعني تخرج من صدورهم. وقال ابن زيد: الأولى هي المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا والأخرى عذاب القبر. وقال ابن عباس: الأولى إقامة الحدود عليهم في الدنيا والأخرى عذاب القبر. وقال ابن إسحاق: الأولى هي ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه كرها غير حسبة والأخرى عذاب القبر. وقيل: إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والأخرى عذاب القبر. وقيل: الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنم وهو قوله سبحانه وتعالى: ثم يردون إلى عذاب جهنم يخلدون فيه.
قوله عز وجل: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فيه قولان: أحدهما: أنهم قوم من المنافقين تابوا من نفاقهم وأخلصوا وحجة هذا القول أن قوله تعالى وآخرون عطف على قوله وممن حولكم من الأعراب منافقون والعطف موهم ويعضده ما نقله الطبري. عن ابن عباس أنه قال: هم الأعراب. والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين إنها نزلت في جماعة من المسلمين من أهل المدينة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك.
واختلف المفسرون في عددهم فروي عن ابن عباس أنهم كانوا عشرة منهم أبو لبابة وروي أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية أحدهم أبو لبابة وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة أحدهم أبو لبابة. وقيل: كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، وذلك أنهم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا بعد ذلك وتابوا وقالوا أنكون في الظلال ومع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء؟ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره وقرب من المدينة قالوا: والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين. فأنزل الله عز وجل هذه الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فأنزل الله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية. وقال قوم: نزلت هذه الآية في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه الذي تاب منه فقال مجاهد: نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه فندم على ذلك وربط نفسه بسارية. وقال: والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، فأنزل الله هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحله بيده فقال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة. قالوا جميعا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم وترك لهم الثلثين لأن الله سبحانه وتعالى قال: خذ من أموالهم ولم يقل خذ أموالهم. لأن لفظة «من» تقتضي التبعيض. وقال الحسن وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا وسيأتي خبرهم.