للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الفرع الثالث) الجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به وأما ما دون الجماع كالقبلة ونحوها فمكروه ولا يفسد به عند أكثر العلماء، وهو أظهر قول الشافعي والثاني يبطل به وهو قول مالك، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا، وهو قول أبي حنيفة، وأما الملامسة بغير شهوة فجائز، ولا يفسد به الاعتكاف لما روي عن عائشة: «أنها كانت ترجل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي حائض وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه» زاد في رواية:

«وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة إذا كان معتكفا» وفي رواية: «وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإنسان» أخرجاه في الصحيحين. الترجيل تسريح الشعر، وقولها إلّا لحاجة حوائج الإنسان كثيرة والمراد منها هاهنا كل ما يضطر الإنسان إليه مما لا يجوز له فعله في المسجد وموضع معتكفه.

وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني تلك الأحكام التي ذكرت في الصيام والاعتكاف من تحريم الأكل والشرب والجماع حدود الله وقيل حدود الله فرائض الله. وأصل الحد في اللغة المنع، والحد الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وحد الشيء بالوصف المحيط بمعناه المميز له عن غيره وقيل معنى حدود الله المقادير التي قدرها ومنع من مخالفتها فَلا تَقْرَبُوها أي فلا تأتوها ولا تغشوها. فإن قلت في الآية إشكالان:

أما الأول فهو أنه قال: تلك حدود الله وهو إشارة إلى ما تقدم من الأحكام وبعضها فيه إباحة وبعضها فيه حظر فكيف قال في الجميع فلا تقربوها؟. الإشكال الثاني هو أنه تعالى قال في هذه الآية: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها وقال في آية أخرى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وقال في آية أخرى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ فكيف الجمع بين هذه الآيات؟. قلت: الجواب عن السؤالين من وجهين: أما الإشكال الأول، فجوابه أن الأحكام التي تقدمت فيما قبل، وإن كانت كثيرة إلّا أن أقربها إلى هذه الآية قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ وذلك يوجب تحريم الجماع في حال الاعتكاف، وقال قبلها: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وذلك يوجب تحريم الأكل والشرب في النهار فلما كان الأقرب إلى هذه الآية جانب التحريم قال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها والجواب عن الإشكال الثاني أن من كان في طاعة الله تعالى والعمل بفرائضه فهو منصرف في حيزي الحق فنهي أن يتعداه فيقع في حيز الباطل ثم بولغ في ذلك فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل فيقع فيه فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وقيل أراد بحدوده هنا محارمه ومناهيه لقوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ونحو هذا التحريم فهي حدود لا تقرب كَذلِكَ أي كما بين لكم ما أمركم به ونهاكم عنه كذلك يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أي معالم دينه وأحكام شريعته لِلنَّاسِ مثل هذا البيان الشافي الوافي لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقوا ما حرم عليهم فينجوا من العذاب. قوله عز وجل:

[[سورة البقرة (٢): آية ١٨٨]]

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي ادّعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أرض فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للحضرمي: ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض فأنزل الله هذه الآية.

والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه الله له. وأصل الباطل الشيء الذاهب.

(فصل) أما حكم الآية فأكل المال بالباطل على وجوه: الأول: أن يأكله بطريق التعدي والنهب والغصب. الثاني:

<<  <  ج: ص:  >  >>