للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة يوسف (١٢): الآيات ٥٣ الى ٥٤]

وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)

وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من قول من؟ على قولين أيضا:

أحدهما: أنه من قول المرأة وهذا التفسير على قول من قال إن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب من قول المرأة فعلى هذا يكون المعنى وما أبرئ نفسي من مراودتي يوسف عن نفسه وكذبي عليه.

والقول الثاني: وهو الأصح وعليه أكثر المفسرين أنه من قول يوسف عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها فقال يوسف عند ذلك وما أبرئ نفسي وهذه رواية عن ابن عباس أيضا وهو قول الأكثرين وقال الحسن إن يوسف لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب خاف أن يكون قد زكى نفسه فقال وما أبرئ نفسي لأن الله تعالى قال فلا تزكوا أنفسكم، ففي قوله وما أبرئ نفسي هضم للنفس وانكسار وتواضع لله عز وجل فإن رؤية النفس في مقام العصمة والتزكية ذنب عظيم فأراد إزالة ذلك عن نفسه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ والسوء لفظ جامع لكل ما يهم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية والسيئة الفعلة القبيحة.

واختلفوا في النفس الأمارة بالسوء ما هي فالذي عليه أكثر المحققين من المتكلمين وغيرهم أن النفس الإنسانية واحدة ولها صفات: منها الأمارة بالسوء، ومنها اللوامة، ومنها المطمئنة فهذه الثلاث المراتب هي صفات لنفس واحدة فإذا دعت النفس إلى شهواها مالت إليها فهي النفس الأمارة بالسوء فإذا فعلتها أتت النفس اللوامة فلامتها على ذلك الفعل القبيح من ارتكاب الشهوات ويحصل عند ذلك الندامة على ذلك الفعل القبيح وهذا من صفات النفس المطمئنة، وقيل: إن النفس أمارة بالسوء بطبعها فإذا تزكت وصفت من أخلاقها الذميمة صارت مطمئنة.

وقوله إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن عباس: معناه إلا من عصم ربي فتكون ما بمعنى من فهو كقوله ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ يعني من طاب لكم وقيل هذا استثناء منقطع معناه لكن من رحم ربي فعصمه من متابعة النفس الأمارة بالسوء إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ يعني غفور لذنوب عباده رَحِيمٌ بهم.

قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي وذلك أنه لما تبين للملك عذر يوسف وعرف أمانته وعلمه طلب حضوره إليه فقال ائتوني به يعني بيوسف أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصا لنفسي والاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك وإنما طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه، لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة العزيزة ولا يشاركهم فيها أحد من الناس وإنما قال الملك ذلك لما عظم اعتقاده في يوسف لما علم من غزارة علم يوسف وحسن صبره وإحسانه إلى أهل السجن وحسن أدبه وثباته على المحن كلها فلهذا حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله تعالى أمرا هيأ أسبابه فألهم الملك ذلك فقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فَلَمَّا كَلَّمَهُ فيه اختصار تقديره فلما جاء الرسول إلى يوسف فقال له أجب الملك الآن بلا معاودة فأجابه.

روي أن يوسف لما قام ليخرج من السجن دعا لأهله فقال اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد، فلما خرج من السجن كتب على بابه هذا بيت البلواء وقبر الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسنة ثم قصد باب الملك.

<<  <  ج: ص:  >  >>