قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يعني يغشى هذا هذا، وقيل يدخل أحدهما على الآخر وقيل ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر فما نقص من الليل زاد في النهار وما نقص من النهار زاد في الليل ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة وقيل الليل والنهار عسكران عظيمان يكرّ أحدهما على الآخر وذلك بقدرة قادر عليهما قاهر لهما وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى يوم القيامة أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ معناه أن خلق هذه الأشياء العظيمة يدل على كونه سبحانه وتعالى عزيزا كامل القدرة مع أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، ولما ذكر الله تعالى قدرته في خلق السموات والأرض وتكوير الليل على النهار ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان عقبه بذكر خلق الحيوان فقال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني الإبل والبقر والغنم والمعز والمراد بالأزواج الذكر والأنثى من هذه الأصناف، وفي تفسير الإنزال وجوه. قيل إنه هنا بمعنى الإحداث والإنشاء وقيل إن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وهو ينزل من السماء فكان التقدير أنزل الماء الذي تعيش به الأنعام وقيل إن أصول هذه الأصناف خلقت في الجنة ثم أنزلت إلى الأرض يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لما ذكر الله تعالى أصل خلق الإنسان ثم أتبعه بذكر الأنعام عقبه بذكر حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات وإنما قال في بطون أمهاتكم لتغليب من يعقل ولشرف الإنسان على سائر الخلق خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قال ابن عباس ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وقيل ظلمة الصلب وظلمة الرحم وظلمة البطن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الذي خلق هذه الأشياء ربكم لَهُ الْمُلْكُ أي لا لغيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا خالق لهذا الخلق ولا معبود لهم إلا الله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي عن طريق الحق بعد هذا البيان.
قوله عز وجل: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ يعني أنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه نفعا أو ليدفع عن نفسه ضررا وذلك لأنه تعالى غني عن الخلق على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ولأنه لو كان محتاجا لكان ذلك نقصانا والله تعالى منزه عن النقصان فثبت بما ذكرنا أنه غني عن جميع العالمين فلو كفروا وأصروا عليه فإن الله تعالى غني عنهم ثم قال الله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ يعني أنه تعالى وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفر إلا أنه لا يرضى لعباده الكفر قال ابن عباس لا يرضى لعباده المؤمنين بالكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فعلى هذا يكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى بقوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يريد بعض عباد الله وأجراه قوم على العموم، وقال لا يرضى لأحد من عباده الكفر ومعنى الآية لا يرضى لعباده أن يكفروا به وهو قول السلف، قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله تعالى وإن كان بإرادته لأن الرضا عبارة عن مدح الشيء والثناء عليه بفعله والله تعالى لا يمدح الكفر ولا يثني عليه ولا يكون في ملكه إلا ما أراد وقد لا يرضى به ولا يمدح عليه وقد بان الفرق بين الإرادة والرضا وَإِنْ تَشْكُرُوا أي تؤمنوا بربكم وتطيعوه يَرْضَهُ لَكُمْ فيثيبكم عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تقدم بيانه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بما في القلوب، قوله تعالى: