رَزَقْناكُمْ أي وقلنا كلوا وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ في الكلام حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فأجمعوا ذلك وسئموه، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد وسألوه غيره لأن المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصيا بفعله ذلك فلهذا قال: وما ظلمونا يعني وما أدخلوا علينا في ملكنا وسلطاننا نقصا بمسألتهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون يعني بمخالفتهم ما أمروا به وقد تقدم بسط الكلام على هذه الآية في سورة البقرة.
وقوله تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ يعني: واذكر يا محمد لقومك إذ قيل لهم يعني لبني إسرائيل اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ يعني بيت المقدس، وقال في سورة البقرة: ادخلوا هذه القرية، ولا منافاة بينهما لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ يعني وكلوا من ثمار القرية وزروعها وحبوبها وبقولها حيث شئتم وأين شئتم. وقال في البقرة: فكلوا، بالفاء وهنا بالواو والفرق بينهما أن الدخول حالة مقتضية للأكل عقبه فيحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلا متى شاؤوا وإنما قال في سورة البقرة: رغدا، ولم يقله هنا لأن الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل فأما الأكل مع السكنى والاستمرار فليس كذلك فحسن دخول لفظة رغدا هناك بخلافه هنا وَقُولُوا حِطَّةٌ أي حط عنا ذنوبنا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وقال في البقرة عكس هذا اللفظ ولا منافاة في ذلك لأن المقصود من ذلك تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بسبب التقديم والتأخير نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ يعني نغفر لكم ذنوبكم ولم نؤاخذكم بها.
وإنما قال هنا خطيئاتكم وفي البقرة خطاياكم لأن المقصود غفران ذنوبهم سواء كانت قليلة أو كثيرة إذا أتوا بالدعاء والتضرع سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وقال في سورة البقرة: وسنزيد، بالواو ومعناه أنه قد وعد المسيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بهذا المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له: سنزيد المحسنين فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يعني فغير الذين ظلموا أنفسهم بمخالفة أمرنا من بني إسرائيل فقالوا قولا غير الذي قيل لهم وأمروا به وذلك أنهم أمروا أن يقول حطة فقالوا حنطة في شعيرة فكان ذلك تبديلهم وتغييرهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ يعني بعثنا عليهم عذابا من السماء أهلكهم، ولا منافاة بين قوله تعالى هنا أرسلنا وبين قوله في سورة البقرة أنزلنا لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل، وقيل: بينهما فرق وهو أن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بذلك فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب قليلا ثم أرسله عليهم كثيرا بِما كانُوا يَظْلِمُونَ يعني أن إرسال العذاب عليهم بسبب ظلمهم ومخالفتهم أمر الله. وقال في البقرة: بما كانوا يفسقون، والجمع بينهما أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا وبدلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله تعالى وقد تقدمت هذه القصة أيضا في تفسير سورة البقرة.
قوله عز وجل: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك عن حال أهل القرية وهذا السؤال سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استفهام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد علم حال أهل هذه القرية بوحي الله عز وجل إليه وإخباره إياهم بحالهم وإنما المقصود