للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: أن المراد بالذين اتخذوا العجل تابوا إلى الله تعالى بقتلهم أنفسهم كما أمرهم الله فتاب عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة مع التوبة؟ والجواب: إن ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضبا عليهم والمراد بالذلة هو إسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ.

فإن قلت السين في قوله سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي؟

قلت: هذا الكلام إنما هو خبر عما أخبر الله به موسى عليه الصلاة والسلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقا لوقوعه وهو التل الذي أمرهم الله به بعد ذلك وقال ابن جريج في هذه الآية إن هذا الغضب والذلة لمن مات منهم على عبادة العجل ولمن فر من القتل وهو الذي قاله ابن جريج وإن كان له وجه لكن لجميع المفسرين على الخلافة.

القول الثاني: أن المراد بالذين اتخذوا العجل اليهود الذين كانوا في زمن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: هم الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآباؤهم هم الذين عبدوا العجل وأراد بالغضب عذاب الآخرة وبالذلة في الدنيا الجزية. وقال عطية العوفي: سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وبني قريظة من القتل والجلاء وعلى هذا القول في تقرير الآية وجهان:

الأول: أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل لك في المناقب فتقول للأبناء كذا وفعلتم كذا وإما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذلك هاهنا وصف اليهود الذين كانوا على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم اتخذوا العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم على اليهود الذين كانوا في زمنه بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا.

الوجه الثاني: أن تكون الآية من باب حذف المضاف والمعنى أن الذين اتخذوا العجل وباشروا عبادته سينال أولادهم، إلخ ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.

وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ يعني: وكما جزينا هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها نجزي كل من افترى على الله كذبا أو عبد غيره وقال أبو قلابة: هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله، وقال سفيان بن عيينة: هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة وقال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية قال والمبتدع مفتر في دين الله وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ يعني عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب صغير وكبير حتى الكفر فما دونه ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني ثم رجعوا إلى الله من بعد أعمالهم السيئة وَآمَنُوا يعني وصدقوا بالله تعالى وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب إِنَّ رَبَّكَ يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب مِنْ بَعْدِها يعني من بعد توبتهم لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى يغفر الذنوب ويرحم التائبين وفي الآية دليل على أن السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأن الله تعالى يغفرها جميعا بفضله ورحمته وتقدير الآية أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله وأخلص التوبة فإن الله يغفرها له ويقبل توبته وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين.

[سورة الأعراف (٧): الآيات ١٥٤ الى ١٥٥]

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>