يعني بل على قلوب أقفالها وجعل القفل مثلا لكل مانع للإنسان من تعاطي فعل الطاعة. يقال: فلان مقفل عن كذا، بمعنى ممنوع منه.
فإن قلت: إذا كان الله تعالى قد أصمهم وأعمى أبصارهم وأقفل على قلوبهم وهو بمعنى الختم فكيف يمكنهم تدبر القرآن مع هذه الموانع الشديدة.
قلت: تكليف ما لا يطاق جائز عندنا، لأن الله أمر بالإيمان لمن سبق في علمه أنه لا يؤمن فكذلك هنا والله يفعل ما يريد لا اعتراض لأحد عليه. وقيل: إن قوله أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ المراد به التأسي. وقيل: إن هذه الآية محققة للآية المتقدمة وذلك أن الله تعالى لما قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ فكان قوله أفلا يتدبرون القرآن كالتهييج لهم على ترك ما هم فيه من الكفر الذي استحقوا بسببه اللعنة أو كالتبكيت لهم على إصرارهم على الكفر والله أعلم بمراده.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي، عن عروة بن الزبير قالا:«تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شاب من أهل اليمن: بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به» هذا حديث مرسل وعروة بن الزبير تابعي من كبار التابعين وأجلهم لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه ولد سنة اثنتين وعشرين وقيل غير ذلك.
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ يعني رجعوا القهقهرى كفارا مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى يعني من بعد ما وضح لهم طريق الهداية. قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون آمنوا أولا ثم كفروا ثانيا الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ يعني زين لهم القبيح حتى رأوه حسنا وَأَمْلى لَهُمْ قرئ بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله يعني أمهلوا ومد لهم في العمر وقرئ وأملى لهم بفتح الألف واللام بمعنى وأملى لهم الشيطان بأن مد لهم في الأمل.
فإن قلت: الإملاء والإمهال لا يكونان إلا من الله لأنه الفاعل المطلق وليس للشيطان فعل قط على مذهب أهل السنة، فما معنى هذه القراءة.
قلت إن المسول والمملي هو الله تعالى في الحقيقة وليس للشيطان فعل إنما أسند إليه ذلك من حيث إن الله تعالى قدر ذلك على يده ولسانه فالشيطان يمنيهم ويزين لهم القبيح ويقول لهم في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر العمر ذلِكَ إشارة إلى التسويل والإملاء بِأَنَّهُمْ يعني بأن أهل الكتاب أو المنافقين قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وهم المشركون سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ يعني من التعاون على عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وترك الجهاد معه والقعود عنه وكانوا يقولون ذلك سرا فأخبر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم خبرهم ثم قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية من أمرهم.