الجن رسول وإنما كانت الرسل من الإنس وأجابوا عن قوله رسل منكم يعني من أحدكم وهم الإنس فحذف المضاف فهو كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ وهو جائز في كل ما اتفق في أصله فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين وهم الإنس، وهذا قول الفراء والزجاج ومذهب جمهور أهل العلم. قال الواحدي: وعليه دل كلام ابن عباس لأنه قال يريد أنبياء من جنسهم ولم يكن من جنس الجن أنبياء وذهب قوم إلى أنه أرسل إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس رسلا منهم. قال الضحاك: من الجن رسل كما من الإنس رسل وظاهر الآية يدل على ذلك لأنه تعالى قال: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
فخاطب الفريقين جميعا وأجيب عن ذلك بأن الله تعالى قال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
وهذا يقتضي كون الرسل بعضا من أبعاض هذا المجموع وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضا من أبعاض هذا المجموع وكان هذا القول أولى من حمل لفظ الآية على ظاهرها فثبت بذلك كون الرسل من الإنس لا من الجن، ويحتمل أيضا أن يقال إن كافة الرسل كانوا من الإنس لكن الله تعالى يلقى الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل من الإنس ثم يأتوا قومهم من الجن فيخبروهم بما سمعوا من الرسول ينذرهم به كما قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ- إلى- فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ فكان أولئك النفر من الجن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم وهذا مذهب مجاهد فإنّ الرسل من الإنس والنذر من الجن ونحو ذلك قال ابن جريج وأبو عبيدة. وقيل: كانت الرسل يبعثون إلى الجن من الجن، ولكن بواسطة رسل الإنس والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقوله تعالى: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يعني يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعني ويحذرونكم ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة وذلك أن الله تعالى يقول يوم القيامة يوم لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ ما أخبر في كتابه، وهو قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
الآية فيجيبون بما أخبر عنهم في قوله تعالى: الُوا
يعني كفار الجن والإنس هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
اعترفوا بأن الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذروهم لقاء يومهم هذا وأنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
إنما كان ذلك بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
في الدنيا.
فإن قلت كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا الشرك والكفر في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
قلت: يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة فإذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الخير والفضل والكرامة أنكروا الشرك لعل ذلك الإنكار ينفعهم، وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فحينئذ يختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالشرك والكفر فذلك قوله تعالى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
فإن قلت لما كرر شهادتهم على أنفسهم، قلت: شهادتهم الأولى اعتراف منهم بما كانوا عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتكذيب الرسل وفي قوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا ولذاتها فكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والمقصود من شرح حالهم تحذير السامعين وضجر لهم عن الكفر والمعاصي. وقوله عز وجل: