أعطاه قميصه فكفن فيه ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وليس في حديث جابر ذكر الصلاة عليه فالظاهر والله أعلم أنه صلى عليه أولا كما في حديث عمر وابن عمر ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ثانيا بعد ما أدخل حفرته فأخرجه منها ونزع عنه القميص الذي أعطاه وكفن فيه لينفث عليه من ريقه ثم إنه صلى الله عليه وسلم ألبسه قميصه بيده الكريمة فعل هذا كله بعبد الله بن أبي تطيبا لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابيا مسلما صالحا مخلصا، وأما قول قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده في مرضه وأنه سأله أن يستغفر له وأن يعطيه قميصه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه واستغفر له وصلى عليه ونفث في جلده ودلاه في حفرته فهذه جمل من القول ظاهرها الترتيب وما المراد بهذا الترتيب إلا توفيقا بين الأحاديث فيكون قوله: ونفث في جلده ودلاه في قبره جملة منقطعة عما قبلها. يعني أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بعد ما أعطاه القميص وبعد أن صلى عليه والله أعلم. وقال القرطبي في شرح صحيح مسلم له أن عبد الله بن أبي بن سلول كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف إليه الخزرج وغيرهم حسده وناصبه العداوة غير أن الإسلام غلب عليه فنافق وكان رأسا في المنافقين وأعظمهم نفاقا وأشدهم كفرا وكان المنافقون كثيرا حتى لقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة وكان ولده عبد الله يعني ولد عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما وأكثرهم عبادة وأشرحهم صدرا وكان أبر الناس بأبيه ومع ذلك فقد قال يوما للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنك لتعلم أني من أبر الناس بأبي وإن أمرتني أن آتيك برأسه فعلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بل نعفو عنه وكان من أحرص الناس على إسلام أبيه وعلى أن ينتفع من بركات النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ولذلك لما مات أبوه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فينال من بركته فأعطاه وسأله أن يصلي عليه فصلى عليه كل ذلك إكراما لابنه عبد الله وإسعافا له ولطلبته من قول عمر تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه يحتمل أن يكون قبل نزول ولا تصل على أحد منهم مات أبدا. ويظهر من هذا السياق أن عمر وقع في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه فيكون هذا من قبيل الإلهام والتحديث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون فهمه من سياق قوله: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وهذان التأويلان فيهما بعد. قال القرطبي: والذي يظهر لي، والله أعلم، أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقه سياقة هي أبين من هذه وليس فيها هذا اللفظ فقال عن ابن عباس عن عمر لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: وثبت إليه الحديث، إلى قوله فصلى عليه ثم انصرف فلم يلبث إلا يسيرا حتى أنزلت عليه الآيتان من براءة. قال القرطبي: وهذا مساق حسن وتنزيل متقن ليس فيه شيء من الإشكال المتقدم فهو الأولى وقوله صلى الله عليه وسلم: سأزيد على السبعين وعد بالزيادة وهو مخالف لما في حديث ابن عباس عن ابن عمر فإن فيه لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت وهذا تقييد لذلك الوعد المطلق فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا فلذلك قال لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت فقد علم أنه لا يغفر له. وقوله صلى الله عليه وسلم: إني خيرت مشكل مع قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا وهو متقدم على الآية التي فيها التخيير والجواب عن هذا الإشكال أن المنهي عنه استغفاره لمن تحقق موته على الكفر والشرك. وأما استغفاره لأولئك المنافقين المخير فيهم فهو قد علم صلى الله عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع وغايته وإن وقع كان تطييبا لقلوب الأحياء من قراباتهم فانفصل الاستغفار المنهي عنه من المخير فيه وارتفع الإشكال بحمد الله والله أعلم.
وقال الشيخ محيي الدين النووي: إنما أعطاه قميصه ليكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابيا صالحا وقد سأل ذلك فأجابه إليه وقيل بل أعطاه مكافأة لعبد الله بن أبي المنافق الميت لأنه ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا وفي الحديث بيان مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء له