وقيل: المراد كل أهل الكتاب سواء مؤمنهم وكافرهم لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو أنه مكتوب عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك فقد حصل المقصود والأول أصح. وقال الضحاك يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ هذا كلام مبتدأ منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخير بأنك رسول الله حقا وأن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ يعني من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني بدلائله وبراهينه الواضحة فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني الذين خسروا أنفسهم.
واعلم أن هذا كله على ما تقدم من أن ظاهره خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ممن عنده شك وارتياب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يرتب ولم يكذب بآيات الله فثبت بهذا أن المراد به غيره والله أعلم.
قوله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ يعني وجبت عليهم كَلِمَتُ رَبِّكَ يعني حكم ربك وهو قوله سبحانه وتعالى: وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وقال قتادة: سخط ربك وقيل لعنة ربك وقيل هو ما قدره عليهم وقضاه في الأزل لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فإنهم لا يؤمنون بها حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فحينئذ لا ينفعهم شيء قوله سبحانه وتعالى: فَلَوْلا يعني فهلا كانَتْ قَرْيَةٌ وقيل معناه فما كانت قرية وقيل لم تكن قرية لأن في الاستفهام معنى الحجة والمراد هل كانت قرية آمَنَتْ يعني عند معاينة العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها يعني في حال اليأس إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ هذا استثناء منقطع يعني لكن قوم يونس فإنهم آمنوا فنفعهم إيمانهم في ذلك الوقت وهو قوله لَمَّا آمَنُوا يعني لما أخلصوا الإيمان كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ يعني إلى وقت انقضاء آجالهم واختلفوا في قوم يونس هل رأوا العذاب عيانا أم لا فقال بعضهم رأوا دليل العذاب فآمنوا وقال الأكثرون إنهم رأوا العذاب عيانا بدليل قوله كشفنا عنهم عذاب الخزي والكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو إذا قرب وقوعه.
((ذكر القصة في ذلك)) على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم قالوا: إن قوم يونس كانوا بقرية نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام فدعاهم فأبوا عليه فقيل له أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فأخبرهم بذلك فقالوا إنا لم نجرب عليه كذبا قط فانظروا فإن بات فيكم الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم فلما كان جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس: إن العذاب كان أهبط على قوم يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشف الله عنهم ذلك.
وقال مقاتل: قدر ميل، وقال سعيد بن جبير: غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر، وقال وهب: غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم يونس عليه السلام فلم يجدوه فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم فلبسوا المسوح وأظهروا الإسلام والتوبة وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض فحن الأولاد إلى الأمهات والأمهات إلى الأولاد وعلت الأصوات وعجوا جميعا إلى الله وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس وتابوا إلى الله وأخلصوا النية فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعد ما أظلهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.