للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ كَبِيرٌ جِدًّا، فِيهِ عِدَّةُ أَجْرِبَةٍ - أَيْ فَدَادِينَ - وَعَلَيْهِ جَمِيعِهِ شَبَكَةٌ مِنْ إِبْرَيْسَمٍ، وَفِيهِ مِنَ الطُّيُورِ الْقَمَارِيِّ وَالْهَزَارِ وَالْبَبْغِ وَالْبَلَابِلِ وَالطَّوَاوِيسِ وَالْقَبْجِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِي أَرْضِهِ مِنَ الْغِزْلَانِ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحَمِيرِهِ، وَالنَّعَامِ وَالْإِبِلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَيْضًا. ثُمَّ صَارَ هَذَا كُلُّهُ عَمَّا قَرِيبٍ بَعْدَ النُّضْرَةِ وَالْبَهَاءِ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ. وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ حِينَ بَنَى دَارَهُ:

قُلْ لِابْنِ مُقْلَةَ مَهْلًا لَا تَكُنْ عَجِلًا ... وَاصْبِرْ فَإِنَّكَ فِي أَضْغَاثِ أَحْلَامِ

تَبْنِي بِأَنْقَاضِ دُورِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا ... دَارًا سَتُنْقَضُ أَيْضًا بَعْدَ أَيَّامِ

مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدَ الْمُشْتَرِيِّ لَهَا ... فَلَمْ تُوَقَّ بِهِ مِنْ نَحْسِ بَهْرَامِ

إِنَّ الْقُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا ... فِي حَالِ نَقْضٍ وَلَا فِي حَالِ إِبْرَامِ

فَعُزِلَ ابْنُ مُقْلَةَ عَنْ وِزَارَتِهِ، وَخُرِّبَتْ دَارُهُ، وَأُتْلِفَتْ أَشْجَارُهُ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ قُطِعَ لِسَانُهُ، وَأُغْرِمَ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سُجِنَ وَحْدَهُ، مَعَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ وَالضَّرُورَةِ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِنَفْسِهِ مِنْ بِئْرٍ عَمِيقٍ، فَكَانَ يَمُدُّ الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى جَهْدًا جَهِيدًا، بَعْدَمَا ذَاقَ عَيْشًا رَغِيدًا، وَمِنْ شِعْرِهِ حِينَ قُطِعَتْ يَدُهُ:

مَا سَئمْتُ الْحَيَاةَ لَكَنْ تَوَثَّقْتُ ... بِأَيْمَانِهِمْ فَبَانَتْ يَمِينِي

بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حَتَّى ... حَرَمُونِي دُنْيَاهُمْ بَعْدَ دِينِي

<<  <  ج: ص:  >  >>