وأنشدني له الفقيه ابن الخيمي قطعة مجنسة في لطافة الهواء، مالكة رق الأهواء، خلصت من كلفة التكلف، وصفا مشربها عن قذى التعسف. فالأشعار المتكلفة المصنوعة، قلما يتفق فيها الأبيات المطبوعة، إلا أن يخص الله من يشاء بالخاطر العاطر، والفكر الحاضر، والقريحة الصافية، والآداب الوافرة الوافية، وربما يندر للناظم مقطعات يرزق فيها القبول، كهذه القطعة للقيسراني التي تسلب العقول، وهي:
لا يَغُرَّنَّكَ بالسّيف المَضاءُ ... فالظُّبا ما نظرت منه الظِّباءُ
حَدَقٌ صِحّتها عِلّتها ... ربّما كان من الدّاءِ الدّواءُ
مُرْهَفاتُ الحَدّ أَمهاها المها ... وقضاها للمحبّين القضاءُ
خَلِّ ما بينَ دُماها ودَمي ... فعلى تلك الدُّمى تجري الدِّماءُ
بَزَّني مَن في يدي ما في يَدي ... يا لَقَوْمي أَسرتني الأُسَراءُ
في لِقاء البيض والسُّمْر مُنىً ... دُونها للبيض والسُّمر لِقاءُ
دلوِ أَنفاسي بأَنفاسِ الصَّبا ... فلتعليل الهوى اعتلَّ الهواءُ
كيف تُشْفى كبدٌ ما برِحَتْ ... أَبداً تأْوي إِليها البُرَحاءُ
يا نديميَّ وكأْسي وَجْنَةٌ ... ضرَّجتها باللِّحاظ الرُّقباء
لا تَظُنّ الوردَ ما يَسْقي الحَيا ... إِنما الوَردُ الذي يسقي الحياءُ
وأنشدني له أخرى مطبوعة مصنوعة:
أَترى فَوَّق سهماً من حُسامِ ... يا لَهُ مِنْ ضاربٍ باللحظ رامِ
لحظات بِتُّ منها طافحاً ... أَيُّ سُكرٍ دام من أَيِّ مُدامِ
وبأَكناف المُصَلّى جِيرَةٌ ... لا يُجيرون مُحِبّاً من غَرامِ
شَغَلوا كلَّ فُؤادٍ بهوى ... وأَمالوا كلَّ سَمْعٍ عن مَلامِ
وأَباتوا كلَّ قَلْبٍ شاردٍ ... مِنْ هَواهم في عِقال وزِمامِ
ما عليهم لو أَباحوا في الهوى ... ما عليهم من صِفات المُستَهامِ
مِنْ خصورٍ وَشَّحوها بالضَّنا ... وعُيونٍ كحلوها بالسِّقامِ
وحكى الفقيه عبد الوهاب الدمشقي ببغداد سنة خمسين وخمسمائة قال: دخل القيسراني سنة أربعين وخمسمائة بلد أنطاكية لحاجة عرضت له فنظم مقطعات، يشبب فيها بأفرنجيات. فمنها قوله في أفرنجية يصفها بزرقة العين:
لقد فَتَنَتْني فرنجيّة ... نسيمُ العبير بها يَعْبَقُ
ففي ثوبها غُصُن ناعمٌ ... وفي تاجها قمرٌ مُشْرِقُ
وإِن تك في عينها زُرْقة ... فإِنّ سِنان القنا أَزرق
ومنها يصف أنطاكية:
واحَرَبا في الثُّغور من بلدٍ ... يضحك حُسْناً كأَنه ثَغَرُ
ترى قصوراً كأَنها بِيَعٌ ... ناطقة في خِلالها الصُّورُ
هالات طاقاتِهن آهلةٌ ... يَبْسِم في كلّ هالةٍ قمرُ
سَوافرٌ كلّما شَعَرْنَ بنا ... بَرْقَعهنّ الحَياءُ والخَفَرُ
مِن كلّ وجهٍ كأَنّ صورتَه ... بدرٌ، ولكنّ ليلَه شَعَرُ
فهو إِذا ما السُلُوّ حاربَهُ ... كان لتلك الضفائِر الظَفَرُ
فيا عَذولي فيهن، دعْ كَلَفي ... وانظر إِلى الشمس هل لها طُررُ
وكُنْ مُعيني على ذوي خُدَعٍ ... إِن سالم القلبُ حارب النظرُ
سِرْتُ وخَلَّفْتُ في ديارهُمُ ... قلباً تمنّيت أَنَّهُ بصرُ
ولم أَزل أَغْبَطُ المُقيمَ بها ... للقرب، حتى غَبِطَت مَن أُسِروا
ومن ذلك في كنيسة السيدة، وهي قبة شاهقة للنصارى بأنطاكية:
متى عُجتَ يا صاح بالسَّيِّدَهُ ... فَسَلْ عن فؤاديَ في الأَفئِدهْ
وقلبك حذّره عن أَن يصاد ... فإِنّ بها للهوى مَصْيَدَهْ
وجوهٌ تُباهي قناديلَها ... ببهجةِ نيرانها الموقدَهْ
ترى كلَّ مُستضعَفٍ خصرُه ... إِذا ما دعا طرفَه أَنجَدَهْ