الدمشقي المولد، اليمني الأصل، كهل من أهل الفضل، عديم المثل، في النظم والنثر الممتنع السهل، الرائق الجزل، له الفصول المسجوعة في كل فن، والكلم المطبوعة بكل حسن، وكلامه بضاعة وعاظ دمشق وقصاصها، وهو مسبوك من إبريز الحكم وخلاصها، محوك من لب المعاني ومصاصها، ونثره كالدر النظيم، يرصعه بالنطق الإيادي، في نطاق كلام العبادي، وله مبتكرات رائعة، ومخترعات رائعة، ومبتدعات مليحة، ومذكرات صحيحة.
زارني في دمشق في المدرسة التي أدرس فيها، لمودة يصفيها، في رابع عشر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وهو قليل الانبساط في قصد الناس، كثير الاحتراز والاحتراس. فحين ظفرت به شددت يدي عليه، وملت بجانبي إليه، وقلت له: طالما ماطلني الزمان بدين لقائك، وناضلني في دين إخائك، وعاقتني الأٌدار عنك، وراقتني الآثار منك، حتى صدق الخبر الخبر، وحقق النظر الأثر، والآن حين سمح القدر، ومنح الظفر، فنصرف هذه الأوقات إلى اقتناء أقوات الأرواح، وندير بمحاورتك لصرف هم الفضل من مغناك المستلذ صرف الراح. وجاذبته أطراف الكلام، وأعطاني المعاني الحسان الكرام، ونشدت عند إنشاده ضالة الفضائل، وحاورت منه سحبان وائل. فمما أنشدنيه لنفسه من قصيدة:
أَظُبىً تُجَرَّدُ من عيون ظِباءِ ... يوم الأُبيرِق تحت ظِلِّ خِباءِ
أَمْ أُسدُ خِيسٍ أُبرزت لطعاننا ... ورماحُهُنَّ لواحِظُ الأَطلاء
عَلِقت أَسِنَّتُهنّ في عَلَق النُّهى ... منا، فلم تخرج بغير دماء
وهززْنَ أَعطاف الغصون فَشُقْننا ... بل سُقْننا بأَزِمّة البُرَحاء
والرَّكْب بين أُثَيْل مُنْعَرَج اللِّوى ... والجِزْع، مُزْوَرٌّ إِلى الزَّوْراء
تخْفي هوادِجُه البدورَ وقلّما ... تَخْفى بدورُ التِّمِّ في الظلماء
ويَلُحْنَ من خَلَل البَراقِع مثلما ... في الدَّجْن لاحتْ غُرَّة ابنِ ذُكاء
بين الحواجب والعيون مَصارع العشاق لا في ملتقى الأَعداءِ
وقُدود أَغصان الحُدوج كأَنها الأَلِفات فوق صحائف البيداء
من كل هَيْفاءِ القَوام مُزيلةٍ ... باللحظ منها عَقْل قلب الرائي
تُملي أَحاديثَ الجوى بجفونها ... سِرّاً، وتشكو الشوق بالإِيماء
وحديث أَبناء الغرام بحاجبٍ ... أَو ناظرٍ، من خَشية الرُّقباء
واهاً لقتلى عِشقِ كلِّ مُذيبةٍ ... بالصدّ قلبَ الصخرة الصمّاء
قتلوا بأَسياف العيون، وضائعٌ ... دمُ من يطالب مُقلَة الحسناء
وإِذا الهوى سُلَّتْ صوارمُه على ... قلبٍ فصاحبُه من الشهداء
ومُهَفْهفٍ نَضِر الصِّبا، ثَنَتِ الصَّبا ... منه كقَدِّ الصَّعْدة السمراء
مُتَلثّم بالشمس خَشيةَ ناظرٍ ... يُدميه منه بصارم الإيحاء
قمر منازله القلوب، وشرقهُ ... فلك الجُيوب، وغَربه أحشائي
سقت المَلاحةُ وَرْدَ روضة خدِّه ... طلَّ الحيا وسُلافة الصّهباء
فحماه عن لثم الشِفاه بعقرب ... سوداء، في كافورةٍ بيضاء
دبّتْ فأَحرقها الشُّعاع فأَمسكت ... عن سعيها من خيفة الألآء
أَمُعيرَ غُصْنِ البان هَزَّة عِطفة ... تيهاً، ورقةَ جسمه للماء
ومجرِّداً بيد الجمال على الورى ... هِنْدِيَّ لحظ المُقلةِ الحَوْراءِ
أَترى ظهير الدين فيما ينتضي ... عيناك يوم تشاجُرِ الآراء
وأنشدني له من قصيدة أولها:
أَرأَيت أَحداقاً قُلِبْن قواضِبا ... يَفْلُلْن مُرْهَفَة السيوف مَضاربا
تالله ما استصوبتُ رأْي أُولي نُهىً ... جعلوا مديح الباخلين مكاسبا
واستمطروا سُحُب الأَكُفِّ فأُمطروا ... نِعماً، ولكن تستحيل مصائبا
وقوله من قصيدة في المعنى أولها:
أَذكى صَبابتك الخليطُ الرّاحل
ومنها:
لا أَبتغي عَرَضاً ولا تصحيفه ... والوُدّ منك يقلّ عنه النّائلُ