للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلما هب عليهن الهواء أمالهن كالشارب الثمل، وأدنى بعضهن إلى بعض للضم والقبل، وعطف على كل قضيب قضيبا، كما اعتنق محب حبيبا. والورق قد أخفين بأوراقهن بديع ألوانهن، وهتكن أستارهن بفنون ألحانهن في أفنانهن، ينحن ويبحن، ويغنين ويغردن، ويصدحن تارة ويسبحن، ويعجمن طوراً ويفصحن، كأنهن قينات حجبتهن ستور، أو قينات ضمتهن خدور، يتزاورن بلا رسل، ويتواصلن عن غير ملل، قد أمن المغيب، واطرحن الكاشح والرقيب، وسكن أطيب منزل، ووردن أعذب منهل. وهنالك نهر، كأن حصاه الدر والجوهر، وتراه المسك الأذفر، وماءه من نهر الكوثر، المدخر ليوم المحشر، مغدودق المشارع، سهل الشرائع. فبتنا بها ليلتنا، ونلنا أمنيتنا. فلما تبلد وجه الصباح، نادى منادي الراح: حي على الاصطباح. فقلنا ما قصدنا إلا الصيد، ولا كرامة ولا كيد. ونهضنا إلى خيولنا فركبناها، وإلى آلات القنص فاشتملناها، وإلى الجوارح فجردناها، وإلى المناهل فوردناها. فرأينا صيداً تحار لكثرته الأفكار، وتقصر عن إدراكه الأبصار. فمن أرانب وغزلان، وحبارج وكروان، وحجل ودراج، وطير مما قد هاج، وهي في عدد الرمل والنجوم. فجعل كل صنف من الجوارح جزء مقسوم، فأفردنا الكلاب للأرانب والفهود للظباء، والبزاة للحجل، والشواهين لطير الماء. وسرنا صفاً، كأننا نحاول زحفاً. والظباء في مرابضها نائمات، وعما يراد بها غافلات، في بلهنية من العيش ودعة، وخصب في المرعى وسعة، قد أمنت البوائق، ونسيت العوائق. والأرانب في مجاثمها لبود، تحسبها أيقاظاً وهي رقود. والحجل قد فارق ثبجه، وضيع مدخله ومخرجه، منتصباً على الإكام، لا يفتر عن الكلام، كأنه وامق مستهام، أو طافح خبلته مدام، في غفلة من فتكات القدر، وأمنة من آفات الغير. والدراج قد أخذ في الصياح، لما أحس تبسم الصباح، والبوزجات تجاوبه بالنباح، كأنما الدراج يدعوها إليه، أو كأن الكلاب تطلب ثأراً لديه. وطير الماء في ذلك النهر العجاج، المتلاطم الأمواج، قد شرع في الازداوج، يطرب مع إلفه ويمرح، ويختال عجباً به ويسبح، قد اتخذ الماء معقلاً يحميه، ولا يعلم أن حتفه فيه.

فما كان إلا عن قليل، ولا سرنا إلا جزءاً من ميل، حتى نفرت الظباء من مرابضها وكنسبها، مستبدلة منا وحشة بعد أنسها. فمن غزالة تزجي خشفها، وتتشوف حذراً عليه وتقلب طرفها، وتود لو تحفظه وتقيه، وبروحها من البلاد تفديه. ومن فحل قد طار روقاه، واشتد أزره وقواه، وقد تقدم على السرب، كأنه طالب للحرب، غير محتفل بنا يمشي الهوينا ويرعى، ويلتفت تارة إلينا ويسعى، قد اعتمد على السبق في الإباق، وأمن من وشك الطلب واللحاق. ومن ظبيات يرتعن ويلعبن، ويجئن ويذهبن، غافلات عما يراد بهن، غير حافلات بما أتى إليهن.

فعمدنا إلى الفهود، وهن خلف الرجال قيام وقعود، فما منها فهد إلا وقد سمي باسم، ووسم بوسم، فاستدعينا طريفاً، وكان خفيفاً ذفيفاً، إذا عدا سبق وميض البرق المتألق، وإذا نزا كان كالسيل المتدفق.

كأَنّ الريح حين يلوحُ سِرْبٌ ... أَعارتْه مُعاجَلَة الهُبوبِ

يُغير فيجعل النائي قريباً ... ويسلُب مهجة الظبي الرّبيب

تُلاحِظ منه حين يَجُول جسماً ... تدرّع حالياً حَبَّ القلوب

وجاء الفهاد بفهد نبيل، عريض طويل، صغير الراس، قوي الأساس، يقظ الحواس، صعب المراس، شرس الأخلاق، أهرت الأشداق، قد لبس حلة الأرقم، واقتبس خلة الضيغم، فأخذ جله وبرقعه، ولوهدة من الأرض أودعه، فانساب انسياب الصل مسرعا، وجد لما وجحد إلى مراده مشرعا، وهو يتستر استتار المريب، ويتبع الجري بالتقريب، وكلما حان من السرب التفات، وقف حتى يظن أنه نبات. فلم يزل على كلتا حالتيه، حتى دنا منه وشد عليه، ودخل في جمعه ففرقه، وعمد إلى شمله فمزقه، فطلب كل طريق النجاة، رغبة في الحياة، فما شاف، إلى الأخشاف، ولم يكن إلا أسرع من أن يرد الناظر طرفا، حتى جعل إهاب الفحل ظرفا. فجاء الفهاد إليه، ونزل عليه، وذبح ما صاده، وناوله فؤاده، وقال: ما تقولون في الشبعة، والعمل بمقتضى الصنعة، فقد أحسن الطريف، وصدر منه الفعل الظريف، ولم يبق عليه للذم مكان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. فقلنا: الرأي ما تراه، فدونك وإياه.

<<  <  ج: ص:  >  >>