ثم أحضر الفهاد فهدة وحشية، تخال ظهرها حشية، قريبة عهد بالبرية، قد جرعت الوحوش كؤوس المنية، طويلة الرقبة والظهر والفخذين، عريضة الأذنين والصدر قصيرة الساعدين، وجهها عبوس، مستوحشة لا أنوس، قد حل في براثنها البوس، فطريدتها من الحياة يؤوس.
وَجْهٌ كأَنّ البدر حالة تِمّهِ ... أَهدى له تدويره وكمالَهُ
وَجَناته مَنْموشةٌ فكأَنما ... أَلقى عليها كلُّ خدٍّ خالَه
فاعترضتنا شاةٌ وطَلاها وهيَ بعينها تُراعيه، ومن أَطيب النبات تُرْعيه، فاستترنا منها، وتخفَّيْنا عنها، وقلنا للفهّاد: امض وانفرد، واقض واقتصد، فهذا مكان قصير النبات، قليل الشجرات، لا يتهيأ فيه النزول، ولا يمكن للفهد فيه الدخول، فنحن ندور عليها ونردها إليك، ولا شك أنها تطمع فيك وتحمل عليك. فلما عاينتنا وقفت، ولأغنها استوقفت، وهاج بها القلق، وبان عليها الفرق، فتشاغلنا عنها حتى قر قرارها، وسكن نفارها، وخمدت نارها، وتوارى أوارها، وانعكفت على مرعاها، ظناً أنه يخفى مرآها، ليتم ما قدر في الأزل، وتستوفي ما بقي لها من الرزق والأجل. ثم عدنا فيه راغبين، وللفتك بها راغنين، فقمصت مليا، وخلصت نجيا، وطلبت مخرجا، فلم تجد معرجا، فقصدت الجانب الخالي نحو الفهاد، وهو لها ولخشفها بالمرصاد، فلما تمكن من الإرسال، أخذ برقع الفهدة بلا استعجال، وأرسلها فشدت، وقويت واشتدت، فأشفقت الغزالة على خشفها، فرضيت دونه بحتفها، إذ كان غير عارفٍ بالهرب، ولا قادر على التعب. ونظرت مداها، فقصرت خطاها، وتثاقلت في عدوها، وتكاسلت عن نزوها، لتطمع الفهدة في صيدها، وتحظى بسلامة وليدها، ولم تعلم بماذا الدهر دهاها، وبأي فادحة رماها، وبأي لافحة أصلاها، وبأي دمنة طل دم طلاها، فاستقامت الفهدة على العنز، فلم ينجها سرعة العدو والجمز، فتلتها للجبين، وأخذت منها بالوتين، وشغلتها بحينها عن الحنين، وانفرد الخشف كالحزين، يتفلت، ويتلفت، ويتأسف، ويتخوف، فأدركتنا عليه الشفقة، وملكتنا له الرقة، وعزمنا أن نخلي سبيلها، ولا نفرد عنها سليلها، فتراكضنا إليها، وترامينا عليها، فوجدنا الفهاد قد ذكاها، وأباح الفهدة حماها، فقلنا فات ما ذبح، وفاز من ربح. ثم قال: ما ترون في الاقتصار على هذا الطلق، والاقتناع بما اتفق، فالفهود معكم كثيرة، ومدة نهار الصيد قصيرة، وإصلاح الجارح أصلح، والإحسان إليه أربح، فما تركتم فيه وجدتموه، وما شرهتم عليه حرمتموه. فقلنا: افعل ما بدا لك، ودع جدك وجدالك.
ثم قدم الفهاد فهداً ربيباً، عاقلاً أديباً، كامل الأنس، كأنه من الإنس، قد هذبت التربية أخلاقه، وأذهبت شقاقه، وحلى الإصلاح مذاقه، فهو ولاج خراج، مهتاج كأنه محتاج، دخال إذا أدخل، نزال إن أنزل، مرواح إن أرسل.
يَشُدّ على الطّريدة ثم يَهوي ... فليس ترى به إِلاّ التماحا
فيُرديها مُعاجَلَةً كأَنْ قد ... تضمّن كفُّه القَدَرَ المُتاحا
له خُلقُ اللّيوث فكلّ وقت ... يزيد على بَسالتها جِماحا
وخَلْقٌ تنظر الأَبصار منه ... كأَنّ عليه من حَدَقٍ وِشاحا