للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الريح حاسرة في مجراه، والظباء حائرة في مرجاه، قد نقي بياضه، وحلك سواده، وأمن إعراضه، فملك قياده، فأخذنا معنا، والتأمنا واجتمعنا، وجئنا إلى أرض سبخة لا حشيش بها ولا مدر، ولا شيح ولا حجر، وبها قطيع قد نيف على العشرين، ولم يبلغ الثلاثين، فلما قربنا من السرب، طبنا أنفساً بالخصب، ووثقنا بالكسب، وهو في الهرب، ونحن في الطلب، نخشى أن يفوتنا، ونحرم منه قوتنا، فأجمعنا على أن نطرحه وندور عليه، ونرده إليه. فتركنا الفهد من تحت الهواء، ومضينا في طلب الظباء، وهو قد لم بعضه في بعض، كي يخال قطعة من الأرض، وقورنا حتى جئناها من أمامها، كأننا نسوقها بزمامها، فانقلبت على أعقابها، ملتفة بأصحابها، ملتفتة إلى طلابها، ونحن نقودها إلى حتفها، ونذودها عن إلفها، فحين ضيقنا عليها الحلقة والخناق، اعتمدت على الإباق، وأمنت اللحاق، فرماها صرف القدر على الفهد، ووفى له فيها بالعهد، فقام عليها مستطيلاً مغيرا، فخلناه من سرعته برقاً مستطيرا، فأفرد منها عنزاً حائلا، رعت العشب حولاً كاملا، فنظرنا وإذا بالعجاج قد ثار، ودم الأدماء قد فار، فأسرعت بنا إليه الجياد، وقد سبقنا عليه الفهاد، وهو يرقص فرحاً، ويرتجز مرحا؛ ويقول: ما في الحق مرية، وليس بعد عبادان قرية، ولا بد أن نكتفي بالحصة من خلاله وحلاله، ونكفيه الغصة في خطاه وملاله، فالشقي من طمع، والسعيد من قنع، والرزق مقسوم، والحريص محروم، والتلويح يغني عن التصريح، وهل جزاء الجميل غير الجميل، وما على المحسنين من سبيل. فقلنا إليك فوضنا أمره، ومنك نطلب نفعه وضره.

فلما قضينا من الفهود الوطر، أفضينا إلى المرج ويممنا النهر، وجعلنا طريقنا مظنة الأرنب، وتقاسمنا لصيدها جياد الأكلب.

شَمَرْدَلاتٌ واسِعاتُ الآماقْ ... سُودُ الزلاليم وَشُهْلُ الأَحْداقْ

غُلْبٌ مَهاريت طِوالُ الأَعناقْ ... قُبٌّ سَواطٍ شَرسات الأَخلاقْ

يلثُمن تُرْبَ الأَرض لَثْمَ المُشْتاق ... كأَنهن يستَمِحْن الأَرزاق

للوحش من سُلْطانهن إِفراق ... لا عاصمٌ منها له ولا واق

ولا مجيرٌ لا ولا شافٍ راق

فجر كل واحد منا كلبا، وتفرقنا كأننا نحاول نهبا، فطفقت الأرانب نافرات، والكلاب لهن كاسرات، فحصلنا منهن على الفرج والنزه، ونكبنا عنهن وتركنا إلحاح الشره.

واستحضرنا البزاة والشواهين، وعرضناهن علينا أجمعين.

فاستدعى النقيب بالكلاب، فجيء بباز أصفر نقي، شاطر ذكي، طويل عريض، أزرى بلونه على البيض، نادر الأحداق، طويل الساق، قصير الجناح، يسبق في الطيران عاصف الرياح، صحيح سمين، قوي أمين، لا يرجع عن كل ما يرسل عليه، ويسبق حمامه إليه.

شَهْمٌ غدا يَزينه اصفرارُهُ ... محمودةٌ في صَيْده آثارُهُ

طائرُه لم يُنْجِه فِرارُه ... ولم يُوَقِّ نفسَه فرارُه

ولم يردّ فتكه حِذارُه ... كأَنّما سفكُ الدِّما شِعارُه

أَو حلَّ في مِنْسره شِفارُه

ثم استدعى بالفاره، فأتي بباز أحمر، أسود المنسر، رحب المنخر، مليح المنظر، أزرق الحجر، أسود القفا، أحدب الظهر، شديد القوى حديد البطش والقهر.

فاق البُزاةَ بلَوْنِه المتمرّجِ ... وعلا بحمرته على الإصبهرجِ

ذو مِنْسرٍ رَحْبِ المَناخِرِ أَسودٍ ... شمطاءُ هامته كرأس الزُّمَّج

وكأَنّ زُرْقَة عينه في ماقها ... سَبَجٌ أَداروه على فَيْروزج

سَلَبَ العُقاب سَوادَه فتراه من ... كلّ الجاورح حالياً بنَموذج

غطراف عريض الصدر قوي الأكتاف، من أحسن الأنواع والأصناف، يحسن النزول، ولا يعرف عما يرسل إليه النكول.

ثم استدعى بالفاتك، فجاءوا بالباز الأسود الحالك، قد ادرع بحلة الغراب، وارفتع عن خلقة العقاب، زمجي الراس، قوي الأساس.

جَوْنٌ تُلاحِظ منه منظراً حسناً ... له تَصيرُ البُزاة البيض كالرَّخَمِ

يَنال حامِلُه من حَمْله تعباً ... يَفِرّ منه إِلى الإِعراض والسَّأَم

كأَنّ ما بين هاديه ونَيْفَقه ... تَلَهُّبُ النّار في دِقٍ من الفَحَم

<<  <  ج: ص:  >  >>