للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَبيت يُجافي جَنْبَه عن فِراشه ... إِذا اسْتَثْقَلَتْ بالمُشركين المَضاجِع

لقيته كهلاً، لكل فضيلةٍ أهلاً، وهو مقيم بحماة للاحتساب، وإقراء فقة الشافعي والآداب، شعر ابن رواحة روح الشعر، وروح السر، وريحان أهل الأدب، وراحة ذوي التعب، معنى لائق، ولفظٌ رائق، ورويٌ شائقٌ، وكلام فائق، وأسلوب موافق، سمح الغريزة، سهل النحيزة، معسول الكلم، مغسول الحكم، لا يتكلف صنعةً، ولا يتعسف صيغةً، ولا يركب إلا الذلول، الذي يسلب العقول، إن أقصد، بلغ المقصد، وإن أقطع أحسن المطلع والمقطع، وإن نسب أهب نسيم النسيب متأرج الريا، وإن تغزل شبه بالغزالة والغزال الحبيب المتبلج المحيا.

رأيته في سني صحبتي لنور الدين يتردد في كل سنةٍ ويمدحه، وهو بتشريفه وبجائزته يمنحه، وكان ينشده قصائد فيما يتفق من الوقائع، وينشد لديه مقاصد بما يتسق له في تلك الصنائع، وسافر إلى مصر في زمان الصالح ابن زريك، فنفقت بضائع رجائه في سوق الرواج، وظفر داء أمله عنده من دواء النجح بالعلاج.

ولما أراد الرجوع إلى الشام ركب البحر إليه، فقطع فرنج صقلية الطريق عليه، وحملوه إليها أسيراً، وأقام هناك في الأسر كثيرا، حتى توصلب بسحر الشعراء إلى حل عقدته، ونشط عقلته، وعاد إلى حماة في حمى من السلامة منيع، وذرى من الكرامة مريع، وجعل نور الدين له من إنعامه إدراراً يكيفيه، وكان يقبله ويقبل عليه ويروي فيه، أنشدني لنفسه في قلعة حلب سنة ثلاث وستين في ذي الحجة:

يا ماطلاً لا يرى غَليلي ... لديه ورداً سوى السراب

تَعَلَّمَ الطَّيْفُ منك هجري ... فلا أَراه بلا اجتناب

كم كتبَ الدَّمعُ فوق خدي ... إِليك شكوى بلا جواب

أَغلقتَ باب الوِصال دوني ... فَسُدَّض للصّبر كلُّ باب

إِن كان يحلو لديْك ظُلْمي ... فَزِدْ من الهجر في عذابي

عسى يُطيلُ الوقوفَ بيْني ... وبَيْنَك اللهُ في الحساب

وأنشدني لنفسه أيضاً:

من لِعْينَّي بالكَرى ... فأَرى الطيفَ إِن سرى

طال عهدي فعاد قلْب ... ي لِطَرْفي مُخَبِّرا

كُلَّما اشْتَقْتُ أَن أَرا ... ك أَطلتُ التَّفكُّرا

يا هِلالاً وبانةً ... وكَثِيباً وجُؤْذُرا

لم أَبُحْ بالهوى الخف ... يّ اختياراً فأُهْجَرا

إِنما السُّقْم نمّ عنه ... ودمعي به جرى

أَنت أَبديتَ لي بوجه ... ك عُذراً إلى الورى

أَنت فرّقت بين أَجف ... ان عَيْنَيَّ والْكرى

دَعْ نُوَدِّعْ خَدَّيْك لَثْم ... اً وإنْ شئتَ مَنْظرا

قبل أَن يكْمُل العِذا ... رُ عليه فما يُرى

وأنشدني له من قصيدة في العذار:

قمرٌ أَعار الصُّبْحَ حُسنَ تَبَسُّمِ ... وأَعار منه الغصنَ لِينَ تَأَوُّدِ

واخْضَرَّ شارِبُه فبان لغُلَّتي ... منه اخضِرارُ الرَّوْض حَوْلَ المَوْرِد

ومتى يُباحُ لعاشقيه مُقَبَّلٌ ... كالدُّرِّ في الياقوت تَحْتَ زَبَرَجْدَ

وأنشدني لنفسه سنة أربعٍ وستين:

مالي على السُّلْوانِ عَنْك مُعَوَّلُ ... فإِلامَ يَتْعَبُ في هواك العُذَّلُ

يزدادُ حُبُّكَ كلَّ يَوْمٍ جِدَّةً ... وكأَنّ آخِرَه بقلبي أَوَّل

أَصبحتَ ناراً للمُحِبِّ وَجَنَّةً ... خَدَّاك جَمْرُ غَضاً وريقُك سَلْسَل

لك لِينُ أَغصان النَّقا لو لِنْتَ لي ... ولك اعتدالُ قَوامِها لو تَعْدِل

يا راشقاً هَدَفَ القلوبِ بأَسهمٍ ... خَلِّ السِّهامَ فِسْحُر طَرْفِك أَقْتَلُ

ما لِلْوُشاةِ سَعَوا بنا يا لَيْتَهْم ... ثَكِلوا أَحِبَّتَهم كما قد أَثْكَلوا

جَحَدوا الذي سمعوا وقالوا غيرَه ... ولو انَّهمْ لا يسمعون تَقَوَّلُوا

هَبْ أَنَّ أَهلك أَوْعدو وتهدَّدوا ... مَنْ يَرْعَوي مِنْ ذاك أَوْ مَنْ يَقْبَل

<<  <  ج: ص:  >  >>