للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يظن، أدام الله ببقائه جمال الزمان وأهله، ويسر له إظهار مكتوم فضله، أن الخادم يسلك سبيل النفاق في مقاله، ولا إعارة شهادةٍ في وصف كماله، لا والله ما ذلك مذهبه، ولا هو مراد المجلس العالي ولا أربه، ولكنها شهادة ولا يحل كتمها، وقضيةٌ جرى بقول الحق فيها حمكها، ولولا أن الخادم قد بقي فيه أثرٌ من إقدام الشباب، لأحجم عن إصدار كتابٍ أو رد جواب، لكنه على ثقةٍ من كريم مساهلة المجلس العالي وحسن تجاوزه، ويقينٍ أن فضله جدير بستر نقص الخادم وسد معاوزه، وهو يضرب عن ذكر ما عنده من الشوق إلى كريم رؤيته، والوحشة بمحبوب خدمته، ويقتصر على ما قاله زهير:

إن تُمْسِ دارُهُم منّي مُباعَدةً ... فما الأَحبّةُ إلا هُمْ وإِنْ بَعُدوا

فأما ما أنعم به من ذكر الخادم في مطالعاته، فهو كذكر موسى أخاه هرون عليه السلام في مناجاته، ولا سواء، موسى ذكر شقيقه، والمجلس العالي ذكر رفيقه، وهذه اليد البيضاء مضافةً إلى سالف أياديه، مقابلةٌ بالاعتراف بالمنة لساميه، فلقد شرفه بذكره في ذلك المقام العالي، وإن كان لا يزال على ذكر الإنعام المتوالي، تقريب مالك رقه وإكرامه قد شرفاه، وإنعامه قد أغناه عن الخلق وكفاه، وإن سأله أجاب سؤاله، بما يحقق رجاءه وآماله، وإن أمسك عن غنى فضله بفضله، فاجأه بتبرع مواهبه وبذله، فالخادم من تشريف مالك رقه ذو تاج وسرير، ومن غزير إنعامه في روضةٍ وغدير، وذلك ببركات المجلس العالي ويمن نقيبته، وجميل رأيه في الخادم وحسن نيته، لكن يشوب ما هو فيه من إنعام لم تبلغه أمانيه أسفٌ قد أقض لين مهاده، وسلك من القلب حبة سواده، على ذاهب عمره، وقوة أسره، إذا لم يكن أبلاهما في خدمة مالك رقه، وبذل رأسه بين يديه إبانةً عن صحة ولائه وصدقه، والخادم يتسلى عما فاته من الخدم في المهم، بخدمته بصالح دعائه في الليل المدلهم، والله سبحانه يتقبل من الخادم فيه صالح دعائه، وينصره على جاحدي نعمائه، بمحمدٍ وآله.

فأما ما أنعم به من ذكر أصغر خدمه مرهف فهو يخدم بتقبيل قدمه، والخادم يقول ما قاله أبو الفتيان ابن حيوس عن خدمة أبو الحسن رحمه الله لمحمود بن صالح.

على أَنه لا فُلَّ غَرْبُ لسانه ... مَدى الدَّهْرِ لا يَحتاجُ مِنّي مُتَرْجما

وهو يقوم بالجواب عن شريف الاهتمام، وجزيل الإنعام.

وأما ما تطول به من ذكر كتاب العصا وشرفه، حتى توهم أنه أحسن فيما صنفه، وعند وصوله من ديار بكر، لا يلقي عصا تسياره إلا بمصر، يقتفي أثر عصا الكليم، إلى جنابه الكريم، إلا أنه آية إقراره بالربوبية لفضله وإفضاله، ساجدٌ سجود السحرة لتعظيمه وإجلاله، يتلقف من إنعامه حسن التجاوز عن نقصه، ويعوذ بكرمه من منافثة علمه وفحصه، وتشريف الخادم ولو بسطرٍ واحدٍ عند خلو البال، والفراغ من مهم الاشتغال، يرفع من قدره، ويوجده أنه بالمكان المكين من حسن ذكره ورأيه، أدام الله أيامه في ذلك أعلى إن شاء الله تعالى.

وكتب إلي وقد رحلنا من دمشق في خدمة الملك الناصر إلى حلب في شوال سنة إحدى وسبعين:

عِمادَ الدين أَنت لكل داعٍ ... دعاك لِعَوْنه خيرُ العِمادِ

تقومُ لنصره كرَماً إذا ما ... تقاعد ذو القَرابة والوداد

قضى لك بالعُلى كرمُ السّجايا ... وما أُوتيتَ من كرم الوِلاد

أَبُّثك وَحْشتي لك واشتياقي ... إِليك وما لقيتُ من البِعاد

وإِني في دمشق ومَنْ حَوَتْهُ ... لبُعدِك ذو اغتراب وانفراد

ومثلُك إِن تطلَّبَه خَبيرٌ ... بهذا الخَلقْ ليس بِمُستفاد

أَنار بك الزمانُ فلا عَلَتْهُ ... لفَقد عُلاك أَثوابُ الحِداد

وكتب إلي أيضاً في ابتداء مكاتبة:

يا عِمادي حين لا مُعْتمَدٌ ... وصَدى صوْتيَ في الخَطْب المُلِمِّ

والذي بَوَّأَني من رأَيه ... في أَعالي ذروة الطَّوْد الأشَمِّ

مُنذُ فارقُتك أُنْسي نافرٌ ... وسَنا صُبحي كليلٍ مُدْلَهِمّ

فإِلى من أَشتكي شيئاً إِذا ... غاب عني مُشتكي طارقِ غمّي

<<  <  ج: ص:  >  >>