للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما يحسب العبد أن الملك يعجزعن واحدٍ وهو بالورى مستقل، وأن السحاب يعرض عن ذكي الروض وهو على الفلا مستهل.

ولقد كتب في هذا المعنى بما يرجو أن لا يرجا، وأنهى منه ما اقتضى الصواب أن ينهى، والله المسؤول لها في عاقبةٍ حميدة، وبقيةٍ من العمر مديدة، فإنها الآن نوح الأدب وطوفانها العلم الذي في صدرها، ولا غرو أن يبلغ عمره بعمرها، على أن يتحقق خلودها في الجنة بعملها، وفي الدنيا بذكرها، فإن الدارين يتغايران على عقائل فخرها، ولا يتعيران عن إجرائها على رفع قدرها، وعلى أنها طالما أقامت الحد على الدنيا السكرى حتى بلغت في حدها من العمر الثمانين، وآذنت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السلم من قلمها تأديب الجانين، وما حملت العصا بعد السيف حتى ألقت إليها السلم فوضعت الحرب أوزارها، ولا استقلت بآية موسى إلا لتفجر بها أنوار الخواطر وتضرب بحارها، وما هي إلا رمحٌ وكفى بيدها لها سنانا، وما هي إلا جواد يجنب السنين خلفها فتكون أناملها لها عنانا.

وعلى ذكر العصا فإن تيسر الكتاب المجموع فيها حسب أنه ثانية العصا، وأضيف إلى محاسنها التي لا تحصى أو يحصى الحصا.

وكان من مدةٍ قد شاهد بحلب كتباً بخط المولى الولد دلت على مضضٍ ومرض، ولعله الآن قد عوفي من الأمرين، وقرت بوجهه العين، وجددت عهداً بنظره، وقرت عليها لسانه إسناد خبره، وبلت غلة الحائم، ورأت منه هلال الصائم، وطالعها وجه الزمان المغضب منه بصفحة المباسم، وفي مواعيد الأنس منه الضامن الغارم، وهو يسلم عليه تسليم الندى على ورق الورد، ويستثمر الوفاء من غرس ذلك العهد، ولكتاب الحضرة العالية من الخادم موقع الطوق من الحمام يتقلد فلا يخلع، ويعجبها فلا تزال تسجع، بحلبه طوقاً على الأسى إلا أنه بدر الدمع مرصع، ولا يمنعه منه شعار السرور أن يحزن لفرقتها ويجزع، فإذا أنعم به فمع ثقةٍ ويخشى أن يكون هذا الشرط له قاطعا، بل مع من اتفق فإنه كالمسك لا يدعه العرف الضائع أن يكون ضائعاً:

أُكْتُبه تكتبْ لي أَماناً ماضياً ... وابعثه تبعث لي زماناً راجعا

إِن أَشتريه بِمُهجتي فقليلةٌ ... فاسمَح به فمتى عرَفْتُك مانعا

وجواب مؤيد الدولة، وقرأته عليه فسمعه:

وَصَل الكتابُ أَنا الفِداءُ لِفْكَرةٍ ... نَظَمَتْ نفيسَ الدُّرِّ فيه أَسْطُرا

وَفَضَضْتُه عن جَوْنَةٍ فتأَرَّجَتْ ... نَفَحاتُه مِسْكاً وفاحَتْ عَنْبرا

وأَعدْتُ فيه تأَمُّلي مُتَحيِّراً ... كيف استحال اللفظُ فيه جَوْهرا

الخادم يخدم المجلس العالي الأجلي الأوحد الصدر الفاضل، فضله الله برفع درجاته في الجنان، كما فضله بمعجز البلاغة والبيان، وبلغه من الخيرات أمله، وختم بالحسنى عمله، وجمل ببقائه الدنيا، وأجزل حظه من رحمته في الأخرى، بسلامٍ يغاديه نشره ويرواحه، ودعاءٍ لا يحجب عن الإجابه صالحه، وثناءٍ يضيق عن حصر فضائله منادحه، وما عسى أن يقول مطريه ومادحه، والفضل نغبةٌ من بحره الزاخر، وقطرةٌ من سحابه الماطر، تفرد به فما له من نظير، وسبق من تقدمه في زمانه الأخير، فتق عن البلاغة أكماماً تزينت الدنيا منها بالأعاجيب، وأتى بآيات فصاحةٍ كادت أن تتلى في المحاريب، إذا استنطقت ازدحمت عليه العقول والأسماع، ووقع على الإقرار بإعجازها الاتفاق والإجماع، فسبحان من فضله بالبلاغة على الأنام، وذلل له بديع كلامٍ ما كأنه من الكلام، تعجز عن سلوك سبيله الأفهام، وتحار في إدراك لطف معانيه الأوهام، هو سحرٌ لكنه حلال، ودرٌ إلا أن بحره حلوٌ سلسال.

<<  <  ج: ص:  >  >>